Translate

الفصل الثالث - «عَلَّمَ بِالْقَلَمِ»

الفصل الثالث: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ

تعتبر افتتاحية سورة العلق كنزًا معرفيًا لا مثيل له، فما هو العلق الذي خلق منه الإنسان؟ وما علاقة العلق بالأمر اقرأ؟ وما الرابط بين القراءة والعلم بالقلم.

لقد أفردنا فصلًا كاملًا في الجزء الأول من كتاب (تلك الأسباب) لشرح مراحل تكوين الجنين (خلق الإنسان من علق)، و أثبتنا من خلال جذور اللغة العربية، و مدلول الكلمة في كتاب الله وترتيب الآيات صحة مفهوم العلقة على أنها العلاقة التي تكونت بين مجموعة الخلايا المخصبة وبين جسم الأم، وأن تأويل العلقة على أنها كتلة دم متخثر هو وصف إغريقي خاطئ، ولا يصح ترديده بحجة أنه تفسير من ضمن تفاسير القرآن الكريم، إذ أنه خطأ علمي، والقرآن لم يشر لمسألة كتلة الدم المتخثر من قريب أو من بعيد.

كذلك وصف العلقة على أنها تشبه الدودة التي علقت بالكائن الحي هو وصف ظاهري غير حقيقي يعتمد على وجهة نظر المفسر، إذ يُرى أن كتلة الخلايا تشبه في مظهرها الدودة التي علقت بشيء ما، بينما من الممكن أن يرى شخص آخر أن كتلة الخلايا هذه لا تشبه الدودة وتشبه شيئا آخر؛ فهل يعقل أن يكون هكذا تفسير قائمًا على التصورات والرؤى الشخصية؟

التفسير الوحيد المقبول جزئيًا هو تفسير العلقة على أنها كتلة الخلايا التي علقت بالرحم، كونه مقبولًا جزئيًا بسبب أن تفسير مجموعة الخلايا التي علقت، أو بمعنى أكثر دقة، تكونت بينها وبين شئ آخر علاقة هو الأقرب لجذر الكلمة في اللغة العربية، أما القول إنها علقت في الرحم فهذا ما أثبتنا عدم صحته من خلال ترتيب الآيات في كتاب الله، ومن خلال تتبع تكوين الخلايا بشكل علمي.

لقد خلصنا إلى أن مفهوم العلقة الأكثر شمولًا هو العلاقة، سواء هذه العلاقة على المستوى المادي، أو على المستوى غير المادي أي غير المرئي. على هذا الأساس تأولنا العلقة كأول مرحلة من مراحل تكوين الجنين على أنها هي أول علاقة على المستوى غير المرئي تكونت بين جسم الأم وبين أول مجموعة خلايا مخصبة في غضون 24 ساعة من عملية التخصيب. بموجب هذه العلاقة التي تكونت بين جسم الأم وبين مجموعة الخلايا أصبح جسم الأم قادرًا على التعرف على هذه الخلايا كجنين، وبدأ التعامل معها،  ثم بدأت مجموعة الخلايا في الاستجابة للمؤثرات الفسيولوجية الصادرة من جسم الأم، إنها لحظة الإعلان الحقيقية عن قدوم كائن جديد تم عن طريق دمج خليتين إحداهما ذكرية (حيوان منوي) والأخرى أنثوية (البويضة).

العلق هو مفرد كلمة علقة، وذكر كلمة علق بصيغة الجمع هكذا في الآية الكريمة التي تشير إلى خلق الإنسان من علق، لهو دليل آخر على أن العلقة لا تعني كتلة الخلايا، وإنما المعنى المستقيم هو العلاقة. من غير المفهوم أن يكون العلق جمع علقة إذا كانت العلقة هي مجموعة الخلايا الأولى في تكوين الجنين، كيف يكون الإنسان خلق من علق أي مجموعة من مجموعات الخلايا؟ الحقيقة أن الإنسان خُلق من مجموعة واحدة من الخلايا، على ذلك لا يمكن أن تكون العلقة مجرد كتلة خلايا ولكن وصف العلقة بالعلاقة هو الأنسب والأكثر دقة.

من هنا ذهبنا إلى أن الإنسان هو بالأساس مجموعة لا نهائية من العلاقات بدأت بأول علاقة بين جسم الأم وبين مجموعة الخلايا، وتنتهي حياة الإنسان على هذه الدنيا بقطع كل هذه العلاقات من خلال الوفاة ليستقبل الحياة الاُخرى.

إذاً ما هي العلاقات التي كونت هذا الإنسان، وكيف تراكمت لتعطي بالنهاية هذه الشخصية المميزة والتي تحمل بصمة تختلف عن أي شخصية اُخرى؟

كما ذكرنا أن أول علاقة أعلنت عن قدوم الضيف الجديد هي العلاقة بين جسم الأم وبين مجموعة الخلايا على المستوى غير المرئي، وما إن تمت هذه العلاقة حتى بدأت العلاقات الأخرى المسئولة عن نمو وتطور هذا الجنين في التكوين وفي التراكم. من هذه العلاقات ما هو غير مادي، مثل العلاقة الأولى بين جسم الأم وبين الجنين بعد 24 ساعة من الإخصاب، والتي بفعلها استجابت مجموعة الخلايا للمؤثرات الفسيولوجية الصادرة من جسم الألم، ومنها ما هو مادي كالعلاقة بين مجموعة الخلايا بعد أيام وبين الرحم، والتي بفعلها علقت الخلايا بجدار الرحم، ثم علاقات عديدة ومتنوعة تنظم عمليات النمو، وعمل الهرمونات، ثم علاقات بين أجهزة الجسم بعضها البعض، علاقات تنظم التنفس، والإخراج، وعمل القلب، وتفاعل الجهاز العصبي مع باقي الجسم.

إنها ملايين، إن لم تكن مليارات العلاقات بين الخلايا وبين بعضها البعض لضمان عمل الجسم بشكل سليم وبشكل صحيح. ما إن يخرج هذا الجنين طفلًا إلا وعلاقات من نوع آخر تبدأ في التكون، علاقة الرضاعة وكيفية تنظيم هذه العملية المعقدة بحيث يصبح لبن الأم ملائمًا تمامًا لمراحل واحتياجات الطفل حسب كل مرحلة. هذه الاحتياجات تُقرر بناء على تقرير مفصل يصل إلى جسم الأم عن طريق لعاب الطفل من خلال علاقة أخرى بين لعاب الطفل وبين لبن الأم. كل يوم يمر هو بمثابة علاقة أو علاقات جديدة تنشأ وتتراكم مكونة هذا المخلوق الصغير، سواءً علاقات نفسية، أو علاقات مع محيطه، أو حتى علاقات مع ما يأكل، وما يستسيغ، وما لا يستسيغ، وما يقبله الجسم وما يرفضه، علاقات بالمحسوس، وعلاقات بالألوان، وعلاقات الشم، وعلاقات اللمس؛ هكذا تطور مستمر وتراكم لعلاقات بشكل دائم. النوع اللامادي من العلاقات لا يمكن إهماله، وهو العلاقات العاطفية والنفسية بين الطفل وبين محيطه، حيث تبدأ هذه العلاقات بينه وبين الأم، ثم الأب والإخوة، ثم تتوسع وتنتشر إلى محيطه، وبسبب هذه العلاقات تتكون الروابط، ويتميز شكل الإنسان الاجتماعي.

جميع العلاقات السابقة يشترك فيها الإنسان مع باقي المخلوقات إلا نوع واحد من العلاقات قائم على الوعي والإدراك، وهو ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات، بل إن جميع العلاقات الأخرى تتأثر بهذا النوع من العلاقات؛ إنها العلاقات المعرفية القائمة على الوعي والإدراك، وبدونها يصبح الإنسان في مرتبة أقل و يتشابه إلى حد كبير مع الكائنات الأخرى التي تقع في نفس المرتبة البيولوجية.

العلاقات المعرفية التي تتشكل منذ اللحظة الأولى هي المتحكم الرئيس، والمسؤولة عن تطوير، وتحسين وصيانة باقي العلاقات.

المعرفة تطور قدرة الإنسان على مقاومة الأمراض وزيادة كفاءة الجسم في مواجهة ما يصيبه.  على المستوى غير المادي، نجد أن العلاقات المعرفية تحدد، وتهذب وتطور العلاقات النفسية والاجتماعية؛ العلاقات المعرفية نفسها تطور ذاتها من حيث القدرة على الاستيعاب، والفهم، والتحليل، والمقارنة والقياس. فالإنسان يتكون من تراكمات لا نهائية من العلاقات، مغلفة جميعًا بالعلاقات المعرفية، هذه التراكمات هي العلق الذي خُلق منه الإنسان.

ما علاقة بداية سورة العلق والتي بدأت بلفظ اقرأ بهذه العلاقات؟ وما دلالة ذكر علم بالقلم بعد الإشارة إلى ذلك العلق أو العلاقات التي خُلق منها الإنسان؟

العلاقات المعرفية تقوم على محورين رئيسين: أولهما هو محاولة فهم الدلالات والإشارات عن طريق تجميع أكبر قدر من المعلومات حولها، والمحور الثاني، العمل على هذه المعلومات و الدلالات والإشارات لاستخلاص معانٍ ذات قيمة.

القراءة هي محاولة فهم، وتدبر واستنتاج الجزيئات، وهي المرحلة الأولى اللازمة لتكوين العلاقات المعرفية. الفهم السائد لعملية القراءة لدى الكثيرين هو عملية تلاوة المكتوب، وهذا خطأ شائع. تلاوة المكتوب هي عملية ترديد الجمل لا غير، أو يمكن اعتبارها تلاوة، أما عملية القراءة فهي محاولة الفهم، والتحليل والاستنتاج. لعل المثال الأشهر وما يقرب المعنى هو استخدامنا لفعل يقرأ بشكل صحيح عندما نقول إن شخصًا يقرأ الأحداث، أو إنه قُرأ في وجهه السعادة، أو القائد قرأ المعركة، أو قرأ المؤامرة.

ورد لفظ قرأ في كتاب الله في ثمانية مواضع:

(فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (سورة النحل: الآية 98).

(اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)(سورة الإسراء: الآية 14).

(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا)(سورة الإسراء: الآية 45).

(وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً)(سورة الإسراء: الآية 106).

(فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)(سورة الشعراء: الآية 199).

(فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (سورة القيامة: الآية 18).

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(سورة العلق: الآية 1).

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)(سورة العلق: الآية 3).

قراءة القرآن لا تعني مجرد ترديد وإعادة الآيات، وإنما القراءة هي عملية تجميع معلومات ودلالات، والوقوف عليها لفهم الجزئيات. نتيجة عملية القراءة المستمرة كمٌ رهيب من المعلومات والمعرفة، هذه المعلومات وتلك المعرفة هي اللبنة الأساسية لأهم نوع من العلاقات التي خلق منها الإنسان. ما نفعله من خلال هذا الكتاب يجوز أن يطلق عليه قراءة القرآن؛ حيث المحاولات الحثيثة لفهم مدلول الألفاظ وسياق التعبيرات القرآنية، أما ما يفعله أصحاب الأصوات الندية، والحناجر الذهبية لا يمكن أن يسمى قراءة القرآن، ويمكن أن نسميه قولًا، وسوف نأتي على بيانه في الأجزاء القادمة، أو يمكن أن نسميه أداءً صوتيًا لا غير.

بعد عملية القراءة، تأتي العملية التالية والأكثر رقيًا، وهي تحصيل العلم. عملية القراءة ليست هي في حد ذاتها العلم، وإنما هي إحدى معطيات أو مقدمات العلم. العلم هو العمليات التي سوف تُجرى على ما تم تحصيله بالقراءة لفهم الكليات، وربط الجزئيات بعضها ببعض للوصول لصورة كاملة عن شئ ما. عبر القرآن الكريم عن طريقة التعلم هذه بالقول (علم بالقلم)، فذهب المفسرون إلى أن القلم هو أداة الكتابة، ولكن مدلول الكلمة في كتاب الله يوحي أن القلم هو طريقة تحصيل العلم وليس أداة الكتابة.

ما هو القلم؟

جذر الكلمة في قاموس اللغة يعني تسوية، وترتيب وتهذيب. لنلقي نظرة على مدلول الكلمة في كتاب الله، توجد سورة كاملة في كتاب الله تسمى سورة القلم، وبداية السورة تم تأويلها بالكامل في الجزء الثالث المتعلق بالتطور، إذ أن الدلالات والإشارات تشير إلى ما يعرف بالتصميم الذكي.

ذكر لفظ القلم أو إحدى مشتقاته في أربعة مواضع في كتاب الله كما يلي:

الآية الأولى:

(ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)(سورة آل عمران: الآية 44).

ذهب المفسرون في تفسير هذه الآية الكريمة على أن القوم اقترعوا على من منهم يكفل مريم عن طريق ما يعرف بالسهم، وهي عملية كتابة اسم كل شخص على سهم أو عود من الخشب، ثم خلط هذه السهام جميعها، ثم اختيار سهم بطريقة عشوائية. من خلال هذا التفسير نجد أن كل قلم هو ما يميز كل شخص، أو أن كل شخص مكتوب اسمه على قلم، القلم هنا أداة تميز كل شخص عن الآخر.

من المفترض أن عملية الاختصام تأتي قبل الاقتراع، وغالباً ما تأتي عملية الاقتراع لحل عملية الخصام. في الآية الكريمة عملية إلقاء الأقلام تمت ثم ذكر القرآن الكريم لنا أن مسألة الخصام قد حدثت. يبدو لي أن المقصود بلفظ يلقون أقلامهم أي كل منهم يخبر عن أفضليته، وما يميزه وما يمكن أن يقدمه لمريم؛ إذ أن القلم هنا كل ما يميز إنسان عن الأخر. فكأن المسألة تمت عن طريق عرض كل شخص مؤهلاته بشكل فيه من الترتيب يبرز دوره ويميزه عن غيره في كفالة مريم، وليست عملية اقتراع. عملية إلقاء الأقلام كأنها إجابة على سؤال ما الذي يجعلك جدير بكفالة مريم؟

ثم بدأ كل منهم توضيح ما يميزه وما يؤهله  عن غيره حتى يفوز بكفالة مريم. لا شك أن في مثل هذه الأمور يعتقد كل إنسان أحقيته وجدارته، ومن هنا ينشأ الخصام. عملية الاقتراع عملية خارج تحكمهم جميعًا ولا يلزمها الخصام. ربما يشكل على البعض لفظ (يلقون) الذي يوحي أنهم يلقون شيئًا ماديًا، ولكن نجد أن لفظ (يلقون) جاء في كتاب الله معبرًا عن إلقاء أشياء غير مادية، وبالتحديد عبر عن القول أو الكلام كما في سورة النحل.

(وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ)(سورة النحل، آية 86).

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (سورة النحل، آية 28).

الآية الثانية

 (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(سورة لقمان، آية 27).

في هذه الآية أيضًا فسر المفسر القلم على أنه أداة الكتابة، وليس هنا ثمة اعتراض، ولكن ما وظيفة القلم هنا؟ تجسيد القلم واقتصاره على الصورة المعروفة هو ما ننفيه، ولكن القلم كحالة لها صفات وخصائص هو ما أرجحه وأؤيده من خلال اللغة و كتاب الله.

القلم الذي يغمس في الخبر ويخرج ليسطر كلمات وجملًا مفهومة هي الوظيفة التي نبحث عنها. القلم هو الطريقة التي تصنع من الأشياء المتراكمة أو غير الواضحة شكلًا واضحًا، مميزًا، ومرتبًا ومهذبًا يمكن الاستفادة منه، وتقديم شئ ذي دلالة واضحة وقيمة معرفية. القلم يستخدم الحبر (مادة عشوائية) لنظم الكلمات، والعبارات والجمل في شكل واضح ومفهوم. كذلك كل طريقة تستخدم معطيات معينة لنظم شكل واضح، ومرتب ومهذب يمكن تسميتها بالقلم.

الآية الثالثة:

(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)(سورة القلم، آية 1)

تم تفسير هذه الآية من خلال فصل الطور- الجزء الثالث؛ حيث لا يخرج وصف القلم عن الطريقة التي يتم بها  نظم وترتيب الأشياء لإنتاج شئ مفهوم ومقصود.

الآية الرابعة:

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (سورة العلق، آية 4).

هذه هي الآية التي نحاول دراستها وربطها بما قبلها وبعدها في سورة العلق.  من خلال جذر الكلمة، ومن خلال مدلول الكلمة في كتاب الله، يتبين لنا أن القلم هنا هو الطريقة التي يتم بها تحليل المعارف والمعلومات المتاحة، ونظمها بشكل مرتب ومهذب لاستخراج فائدة معينة. الآية الكريمة تشير إلى الطريقة التي يتعلم بها الإنسان، والتي ذكرها الخالق، وهي القلم، وما يمكن أن نسميه الطرق البحثية الحديثة. كل العمليات التي تتم على معلومات غير مرتبة بغرض تمييزها وترتيبها لبيان هيئتها وفائدتها يمكن أن نطلق عليه القلم. لا شك أن هذه العلميات يتخللها كثير من التفاصيل مثل، القياس والمقارنة لفهم الصورة بشكل كامل. لا يمكن لعقول لا تنتهج منهجًا بحثيًا، ولا تعرف عنه شيئًا الوصول لمعنى القلم وفهمه.

يمكننا الآن تلخيص علاقة القراءة بطريقة التعلم من خلال مثال بسيط، في العلوم الطبيعية ندرس الرياضيات، والفيزياء، والجيولوجيا وسائر العلوم الخاصة بالطبيعة. عملية دراسة ومحاولة فهم هذه العلوم، واستنباط المفاهيم هو ما يعرف بعملية القراءة، أما استخدام المعارف الناتجة من عملية القراءة بحيث يمكن ربط مجموعة من المعارف مع بعضها البعض ومن خلال ترتيبها بشكل صحيح وتميزها هو ما ينتج العلم.

حتى يمكن فهم الفرق بين القراءة والعلم من خلال فرع واحد من العلوم؛ فلو حاولنا فهم كيف بدأ علم الرياضيات وكيف تطور، نلاحظ أن أول عملية هي عملية المشاهدات، وتدوين الملاحظات، ومحاولة تحليلها ومن ثم فهمها. عملية جمع المعطيات والمشاهدة هي عملية القراءة؛ أما عملية العلم فهي معالجة هذه المعطيات وتحليلها لاستخراج فائدة جديدة ذات قيمة.

كلمة قرآن مصدرها الفعل قرأ، وإضافة الألف والنون للكلمة تفيد الاستمرار. لفظ قرآن تعني أنه مصدر القراءة؛ أي أنه يحمل الدلائل والإشارات التي تحتاج إلى قراءة، أي توقف وتدبر بشكل مستمر. فِهم الجزئيات في كتاب الله عن طريق القراءة ليس علمًا، ولكن ترتيل هذه المعلومات، وترتيبها وتمييزها هو ما ينتج العلم كما قال ربنا (علم بالقلم).

من هنا نجد أن مقدمة سورة العلق أشارت إلى تناسق عجيب قائم بين خلق الإنسان من علق (علاقات) وهذه العلاقات أهمها على الإطلاق العلاقات المعرفية التي تميزه عن باقي المخلوقات وبين أمر القراءة الذي سوف يتيح للإنسان اكتشاف هذه العلاقات والتعامل معها بشكل سليم.   ثم جاء التوجيه الإلهي بمعالجة هذه المعرفة بالقلم أي بالتحليل والتمييز والتنسيق والترتيب وهذا هو مصدر العلم الذي سوف يحصل عليه الإنسان. 

هذه الدورة هي الدورة الطبيعية والصحيحة  التي تضمن تجدد الإنسانية وتطورها وازدهارها وأي تقصير في هذا الدورة نتائجه ليست مرضية ولا تصب في صالح الإنسان سواء في الدنيا أو الأخرة.  القراءة الجيدة لما يحيط بنا يؤدي لفهم علاقات الأشياء بعضها ببعض ومن ثم نستطيع إنتاج علوم جديدة. هذه العلوم تضاف لمعارفنا وتصبح معرفة ثابتة، فيأتي من بعدنا من يقرأ هذه المعرفة المتراكمة  بالتحليل ثم يحاول تفسير العلاقات بشكل أكثر عمقًا فينتج علمًا أكثر عمقًا بناء على التراكم المعرفي السابق وهكذا دورة مستمرة إلى يوم الدين.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكثر الصفحات مشاهدة