Translate

الفصل الرابع: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ

الفصل الرابع:  وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ

ها هم رجال، ونساء وأطفال القرية خرجوا بالرماح والطبول، وأمامهم الكلاب تعوي، إنها ليلة مشهودة، وحدث عظيم، ولابد من إحداث أكبر قدر من الضوضاء لإبعاد نمر الجاكوار العملاق الذي هاجم القمر ويحاول التهامه، ولو فرغ من التهام القمر، لاستدار إلى الأرض، وهاجمهم بلا رحمة وقضى على الأرض ومن عليها في دقائق معدودة. إنها إحدى أساطير ما يسمى بخسوف القمر لدى شعوب الإنكا، أحد أقدم وأكبر الإمبراطوريات للهنود الحمر في أمريكا الجنوبية، حيث كانوا يعتبرون غياب ضوء القمر على غير عادته فألًا سيئًا، ونذير شؤم.

ثقافات الشعوب جميعها مليئة بالأساطير حول ما يسمى بخسوف القمر؛ فبينما هناك من يعتقد أن الحيوانات تلتهم القمر، فإن بعض الشعوب كانت تعتقد أن ما يعرف بالخسوف القمري هو مقدمة لهلاك الأرض عن طريق الكوارث الطبيعية. البعض كان يرى أن الظاهرة لها علاقة مباشرة بتشوه الأجنة، كما دلت على ذلك بعض القصص والروايات من التراث العربي. ثقافات اُخرى كانت تلقي اللوم على الشياطين وقدرتها الفائقة على حجب ومنع ضوء القمر.

قصة هجوم الشياطين السبعة على القمر وحجبه، تعتبر واحدة من تراث بلاد الرافدين حول خسوف القمر. كانت شعوب بلاد الرافدين أصحاب علم أهلهم للتنبؤ بموعد حدوث تلك الظاهرة، وكانوا يعدونها اعتداءً مباشرًا على ملكهم. وكان من ضمن الاحتياطات التي يتم اتخاذها في سبيل مجابهة تلك الظاهرة هي تنكر الملك في زي رجل من العامة، وتعيين ملك بديل حتى يتحمل عبء الهجوم المنتظر وينجو الملك الحقيقي.

للصينيين أيضًا أساطيرهم حول القمر وخسوفه، حيث كان يعتقد الصينيون أن القمر في يوم خسوفه يتعرض للعض من بعض الحيوانات، وخصوصًا الكلاب، فكانوا يقومون بضرب الأجراس حتى تبتعد تلك الحيوانات وتترك القمر في حاله. بعض الصينيين لم يرق لهم، بحسب اعتقادي، أمر الكلاب والحيوانات البرية، فتلك الحيوانات ضئيلة ولا يصح لها أن تهاجم القمر العملاق، فكانت الأسطورة لديهم مختلفة نوعًا ما، حيث اعتقدوا أن تنين السماء هو المسئول الأول عن التهام القمر، وكذلك التهام الشمس أثناء عملية الكسوف. فما كان منهم إلا قرع الطبول وضرب الأجراس والأواني الفارغة لإحداث أكبر ضجة ممكنة لطرد هذا التنين، وإنقاذ القمر من بين أنيابه. في الثقافة الهندية كان الاعتقاد الراسخ أن أحد الشياطين، واسمه راحو، هو الذي يلتهم القمر فيسبب خسوفه، وكان هذا اليوم يومًا حزينًا بالنسبة لهم بحيث كانوا يمتنعون عن الأكل في ذلك اليوم.

إفريقيا كان لها نصيب من هذه الأساطير، حيث القبائل في توجو وبنين كانوا يعتقدون أن الشمس والقمر يتقاتلان فيما بينهما، فيحاول الناس حثهم على التوقف عن طريق حل النزاعات القديمة فيما بينهما.

سكان المناطق الإسكندنافية، الفايكنج، كانوا إذا رأوا ظاهرة الخسوف أو الكسوف للشمس، أسرعوا لصنع ضوضاء وجلبة حتى يتوقف سكول وهاتى عن التهام القمر أو الشمس. إنهم يعتقدون أن اثنين من الذئاب هما سكول وهاتي لديهما رغبة جامحة في التهام الشمس والقمر.

واحدة من القبائل في شمال كاليفورنيا، من سكان أمريكا الأصليين، تُدعى الهبا، كان اعتقادهم أن القمر لديه 20 زوجة، وكان عليه إطعامهم، فإذا كانت أحد الأيام ولم يستطع القمر إحضار طعام يكفي لزوجاته، فإن الحيوانات البرية مثل الأسود والدببة تهجم عليه مما يتسبب في نزيفه، لكن زوجات القمر تحاول مساعدته وإنقاذه.

 يخيل إلي أن القمر كان سعيدًا بتلك المرويات، فهو ذلك المخلوق المهاب والذي تسعى شعوب العالم لاسترضائه بكل الحيل وتطلب وده بكل السبل. دائمًا كان القمر ذلك الشئ الغامض الذي تشعر نحوه بالانجذاب، فتغزل فيه الشعراء، ورسم الفنانون أجمل لوحاتهم، ونسج الأدباء قصصهم ورواياتهم حوله، كم هو محظوظ ذلك القمر. لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد تحطم غرور ذلك القمر، ولم يعد ذلك المخلوق المخيف، وتكشف غموضه فأصبح مجرد تابع للأرض مع أول سفينة فضاء تحط عليه عام 1969م. إنه العلم الذي يحطم كبر الجهل، ويلجمه رغمًا عنه، فقد تحطمت أساطير الشعوب والقبائل حول خسوف القمر، وتوحدت اليوم جميعها خلف العلم لتعلن أن (الخسوف) ظاهرة كونية ليس فيها أي شئ مريب.

يطلق الناس على هذه الظاهرة اسم ظاهرة الخسوف؛ فهل هذه التسمية صحيحة ؟

وصف هذه الظاهرة  بوصف الخسوف يبدو أنه ليس صحيحًا، وخصوصًا أن هناك ما يعبر عن تلك الظاهرة في كتاب الله بشكل أكثر دقة وانضباط.

السابع والعشرون من شهر يوليو عام 2018 حدثت الظاهرة التي يُطلق عليها خسوف القمر، وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الحادثة الفريدة، والتي لا تحدث كثيرًا، وما بين متابع، وراصد، ومستمتع ومحذر، تجد نفسك، رغمًا عنك، قد شغلت الظاهرة قدرًا من تفكيرك. استيقظت صباح يوم الثامن والعشرين تسيطر على عقلي فكرة خسوف القمر، ومعنى كلمة خسوف. تبادرت إلى ذهني وقتها

الآية الكريمة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ)(سورة القصص، آية 81).

تساءلت وقتها، هل الخسف معناه حجب ضوء القمر، أم أن معنى الخسف هو اختفاء وغياب بشكل كامل؟ أعلم جيدًا أن الوصف القرآني وصفًا دقيقًا حقيقيًا، وليس وصفًا ظاهريًا. من يصف هذه الأشياء هو من خلقها، ويعلم صفاتها وخواصها وكل ما يلم بها، وليس هناك مجال للعبثية، أو الفوضى، أو الحشو الزائد.

إذا كانت كلمة خسف لا تعبر عن الظاهرة التي نراها، وهي وقوع القمر، والأرض والشمس على خط واحد، بحيث تصبح الأرض بين القمر والشمس، ويقع القمر في منطقة ظل الأرض، مما يجعل القمر يبدو معتمًا، فأي كلمة تعبر عن هذه الظاهرة الفريدة؟

 لابد أن هناك إشارة ما لهذه الظاهرة في كتاب الله؛ فهي ظاهرة موجودة وحقيقة علمية. نحتاج أن نعطي أنفسنا فرصة للتدبر والتحرر من قيود التراث، وجعل كتاب الله في المرتبة الأولى، ثم كل ما يليه في المراتب التالية، فإن بذلت جهدك في تتبع كلمة في كتاب الله، وحاولت فهمها، وتدبر ورودها في كتاب الله، وتسلسل الآيات بعضها البعض ولم تجد بغيتك، انتقل للمرحلة الأخرى، ثم التي تليها وهكذا. لكن أن نجعل النص الإلهي محكومًا وتحت تصرف الإنتاج البشري، مهما كان هذا الإنتاج البشري، فقد فقدنا البوصلة وتفلت منا زمام الأمر.

في البداية نستعرض بعض المعلومات البسيطة عما يسمى مجازاً خسوف القمر:

- يبلغ قطر القمر تقريبا 3500 كيلومتر، ويدور حول الأرض دورة كاملة كل 29.5 يومًا، تحدث ظاهرة (الخسوف) نتيجة لاصطفاف ثلاثة أجرام وهي: الشمس، والأرض والقمر على خط واحد. تحدث ظاهرة (الخسوف) مرتين تقريبًا كل سنة،  حيث يغيب ضوء القمر تمامًا فيما يعرف (بالخسوف)، عندما يتطابق قرص القمر تمامًا مع قرص الشمس وقرص الأرض، أو بمعنى آخر، دخول القمر بالكامل في حيز ظل الأرض.

-مستوى مدار القمر ليس في مستوى دوران الأرض حول الشمس، ولو تطابق مستوى دوران القمر مع مستوى دوران الأرض، حدث (خسوف وكسوف) مرتين كل شهر؛ ولذلك لا تحدث تلك الظواهر إلا إذا مرت الشمس بنقطة التقاء المستويين أو العقدتين، كما يسميها العلماء، وهي نقاط التقاء مستوى دوران القمر مع مستوى دوران الأرض. تسمى إحدى النقطتين بالعقدة الصاعدة، والنقطة الثانية بالنقطة الهابطة. يمر القمر تقريبًا مرتين كل عام بهاتين النقطتين، لذلك تحدث الظاهرة بمعدل مرتين كل عام تقريبًا.

هذه المعلومات البسيطة سوف تساعدنا في فهم ظاهرة «الخسوف»، وتسميتها الصحيحة ووصفها الرائع في كتاب الله.

الخواطر القرآنية

لنستعرض كلمة خسف في كتاب الله، ثم نحاول معرفة جذر الكلمة، وهل تنطبق تسمية كلمة خسف على الظاهرة التي نشاهدها أم لا؟

ذكرت كلمة خسف في كتاب الله ثماني مرات كما يلي:

الآية الأولى:

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ)(سورة النحل، آية 45).

الآية الثانية:

(أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً)(سورة الإسراء، آية 68).

الآية الثالثة:

(فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ)(سورة القصص، آية 81).

الآية الرابعة:

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)(سورة القصص، آية 82).

الآية الخامسة:

(فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(سورة العنكبوت، آية 40).

الآية السادسة:

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ)(سورة سبأ، آية 9).

الآية السابعة:

(أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)(سورة الملك، آية 16).

الآية الثامنة:

(وَخَسَفَ الْقَمَرُ)(سورة القيامة، آية 8).

الآية التي نحن بصددها هي الآية المعنية بجملة خسف القمر، وقبل أن أُسجل خواطري حول هذه الآية الكريمة، لنرى ما تقوله التفاسير التي تعرضت لتلك الآية الكريمة.

معظم التفاسير قضت بأن المقصود بخسوف القمر ذهاب نوره وضياءه، وأنقل هنا من تفسير الطبري والقرطبي:

(وقوله (وخسف القمر) ، يقول: ذهب ضوء القمر، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

عن قتادة، قوله (وخسف القمر)، ذهب ضوؤه فلا ضوء له. عن قتادة، عن الحسن (وخسف القمر) هو ضوؤه، يقول: ذهب ضوؤه) انتهى الاقتباس من التفسير.

سوف نحاول قراءة الآية في سياقها، ونحاول فهم مدلول الكلمة من خلال كتاب الله.

لقد جاءت كلمة خسف سبع مرات من أصل ثمانٍ متعلقة بالأرض، ومرة واحدة فقط متعلقة بالقمر، مدلول كلمة خسف في السبع آيات المتعلقة بالأرض يدل على اختفاء شئ و تغييبه كليًا داخل الأرض.

جذر كلمة خسف كما في قاموس اللغة لابن فارس هي الخاء والسين والفاء، ولها أصل واحد وهو غموض وغور. من خلال مقارنة جذر الكلمة ومدلولها كما جاءت في كتاب الله، نجد أن المعنى الأقرب هو غور، أي اختفاء وتغييب بشكل كامل، ولو حاولنا فهم كلمة خسف من منظور علمي، سنجد أن كلمة خسف تحمل معنى الانهيار الداخلي.

فهل ما يحدث للقمر هو خسف حقيقي؟ أي أن القمر يغيب ويختفي بشكل كامل؛ بمعنى أن شئ ما ابتلعه نتيجة لانهيار داخلي. هل القمر نفسه حدث له انهيار داخلي؟ الإجابة لا، ما حدث هو حجب ضوء الشمس بواسطة الأرض عن القمر فأصبح معتمًا. نتيجة لعدم انعكاس الضوء على سطح القمر لم يستطع الراصد على الأرض رؤية القمر، وهذا كل ما في الأمر. لو صح استخدام كلمة خسف للتعبير عن غياب ضوء أو نور القمر، لكان يلزم التعبير استخدام كلمة نور القمر، وخصوصًا أن كلمة نور أو ضوء كلمات قرآنية.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(سورة يونس، آية 5).

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)(سورة نوح، آية 16).

عندما يقول ربنا سبحانه وتعالى (وخَسفَ القمر)، فهذا معناه حدوث انهيار داخلي للقمر، ولو كانت الكلمة خُسفَ مبنية للمجهول لأعطت معنىً آخرًا، وهو أن شيئًا ما ابتلع القمر، وكلتا الحالتين لا تنطبق على ظاهرة حجب نور القمر بسبب وقوع القمر في منطقة ظل الأرض.

الحديث في آيات سورة القيامة عن خسف القمر بمعنى انهيار داخلي للقمر، هو مشهد من مشاهد الانهيار الخاص بيوم القيامة. ما يثبت هذه الفرضية الآية التالية لهذه الآية الكريمة وهي

(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)(سورة القيامة، آية 9).

السورة التي ذُكر فيها هذا المشهد تسمى سورة القيامة.

مما يثبت مما لا شك فيه أن المقصود هو أحداث النهاية، وانهيار  هذا النظام يوم القيامة.

(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ(13))(سورة القيامة، آيات 1-13)

إذا كانت كلمة خسوف لا تصلح للتعبير عن الظاهرة الكونية المشهورة، فما التعبير الأنسب والأكثر دقة للتعبير عن هذه الظاهرة؟

هذه الظاهرة الكونية لها إشارة واضحة في كتاب الله من خلال آيات كريمة في سورة الانشقاق والتي وصفها الله سبحانه وتعالى بالاتساق.

اتساق القمر

(فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ((19))(سورة الانشقاق، الآيات 16-19).

أربع آيات تصف المشهد لا أروع من هكذا وصفًا ربانيًا، ما كان لمحمد صلوات ربي عليه كبشر أن يأتي من عند نفسه بهذا الوصف الدقيق والبليغ ولو اجتمع أهل الأرض قاطبة على وصف هذه الظاهرة، بمثل هكذا كلمات قبل اكتشاف العلم الحديث لما استطاعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.

تأويل القدماء كثيرًا ما يصيب، إذا كانت الآية ظاهرة وواضحة يستطيعون وصفها بدقة، ولكن أحيانًا يفتقد التفسير إلى الدقة، إذا كانت المعارف الإنسانية حول هذه النقطة غير مكتملة. وهذه طبيعة بشرية خالصة لذلك لا نعول على التفاسير القديمة في تفسير هذه الآيات القرآنية التي تصف آيات كونية.

ماذا يمكننا أن نستخلص من اللغة، ومن مدلول الكلمات في كتاب الله ومن المعلومات العلمية المتاحة.

الآية الأولى: (فلا أقسم بالشفق)

الآية الأولى تتحدث عن الشفق، وكلمة الشفق كما في قاموس اللغة لها أصل واحد، وهو الرقة والضعف في الشئ، ولو استعرضنا كلمة الشفق ومشتقاتها في كتاب الله نجد أنها وردت إحدى عشر مرة في صورة مشفقين أو مشفقون، كما الآية الكريمة:

(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)(سورة الكهف، آية 49).

وجاء كذلك الجذر شفق في صورة أشفق، كما في الآية التالية:

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)(سورة الأحزاب، آية 72).

كذلك جاءت إحدى المشتقات في صورة لفظ شفق صريح في الآية محل دراستنا:

(فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ)(سورة الانشقاق، آية 16).

من خلال جذر الكلمة ومدلولها في كتاب الله، نجد أن مدلول الكلمة هو الرقة، والخفوت والضعف، وإذا كان القدماء قالوا إن الشفق هو الأشعة الحمراء للشمس، فهو صحيح 100 بالمائة. طبيعة الأشعة الشمسية التي أصابها الخفوت، والضعف والرقة بسبب تشتتها ومن ثم ظهور اللون الأحمر بسبب ظاهرة الاستقطاب ينطبق تماما على لفظ الشفق.

نفس المثال ينطبق تمامًا مع حالة الظاهرة الكونية المسماة بالخسوف، حيث يظهر القمر باللون الأحمر نتيجة لانكسار أشعة الشمس على حافة الكرة الارضية، ليصبح تأثير هذه الأشعة رقيقًا جدًا وخافتًا وضعيفًا، أي أن ظاهرة الشفق قد تحققت حرفيًا عندما ظهر القمر باللون الأحمر. غالبا يطلق على القمر اسم القمر الدامي إذا ظهر باللون الأحمر للعين المجردة.

الآية الثانية (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ).

جذر كلمة وسق في قاموس اللغة لها أصل واحد وهو حمل الشئ، و وسقت العين الماء أي حملته، فكلمة وسق تعني حمل شئٍ أو جمع شئٍ إلى شئٍ آخر. بالنظر إلى الظاهرة، نجد أن الليل، وهو نتيجة طبيعية لغياب ضوء الشمس، قد حُمل ظلمة أخرى، أو جمع ظلمتين: الظلمة الطبيعية بغياب ضوء الشمس، وظلمة إضافية ناتجة عن الظاهرة وغياب نور القمر، حيث تحدث الظاهرة والقمر في طور البدر.

الآية الثالثة (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ).

كلمة اتسق تعنى انتظم، في قاموس تاج العروس (اتّسَقَت الإبِلُ) أي اجتمعت وانتظمت، وكذلك جاءت بمعنى ينْضَمُ كما حكاه الكِسائيّ. فى كتاب (قراءة جديدة في الشعر الدول المتتابعة) الدكتور وئام أنس الذي يقول أن مادة اتسق اللغوية (تدور على معنى الانضمام والانتظام). لو حاولنا ترجمة كلمة اتسق ترجمة رياضية، فلن نجد أبلغ من تعبير اصطفاف الشئ مع الأشياء الأخرى في خط مستقيم.

لو نظرنا إلى الظاهرة الكونية، نجد أن القمر بالفعل انتظم في خط واحد مع كلا من الشمس والأرض، ليصبح تعبير الاتساق هو الأكثر بلاغة في وصف هذه الظاهرة الكونية.

الآية الخامسة (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ)، تفسير هذه الآية الكريمة يوضح كيف يمكن للتفسيرات المعتمدة على المعارف الشخصية أن تفسد المعنى وتحدث إرباكًا في فهم مجمل الآيات، بل وفوق ذلك يمكن لهذه التفسيرات أن تربك قواميس اللغة والمعاجم، على اعتبار أن فهم الأقدمين هو الفهم الأدق والأصح، بل والمسيطر على كتاب الله.

لو استعرضنا تفسير الآية من خلال تفسير الطبري سوف نجد الآتي:

(قوله: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، اختلف القرّاء في قراءته، فقرأه عمر بن الخطاب، وابن مسعود وأصحابه، وابن عباس وعامة قرّاء مكة والكوفة (لَتَرْكَبَنَّ) بفتح التاء والباء، واختلف قارئ ذلك كذلك في معناه، فقال بعضهم: لَتَرْكَبنَ يا محمد أنت حالًا بعد حال، وأمرًا بعد أمر من الشدائد.

عن مجاهد، أن ابن عباس كان يقرأ (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم حالًا بعد حال. عن أبي إسحاق، عن رجل حدّثه، عن ابن عباس في (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، قال: منزلًا بعد منزل. عن أبي بشر، قال: سمعت مجاهدًا، عن ابن عباس (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، قال: محمد صلى الله عليه وسلم. عن عكرِمة، في قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، قال: حالًا بعد حال. عن الحسن، في قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، قال: حالًا بعد حال. عن أبي رجاء، قال: سأل حفص الحسن عن قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، قال: منزلًا عن منزل، وحالًا بعد حال. عن موسى بن أبي عائشة، قال: سألت مرّة عن قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، قال: حالًا بعد حال. عن سعيد (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، قال: حالًا بعد حال. عن مجاهد (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، قال: حالًا بعد حال. عن قتادة، قوله (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، يقول: حالًا بعد حال، ومنزلًا عن منزل). انتهى الاقتباس من التفاسير.

أكتفي بهذا القدر من الأقوال في الآية الكريمة، حيث عامة المفسرين بكل أريحية تأولوا قوله تعالى لتركبن طبقًا عن طبق، إما بقول حال بعد حال وأن المعني بذلك هو الرسول الكريم، أو أمر بعد أمر أو سماء بعد سماء، ومنهم من تأولها حمرة وشفق السماء.

الآيات الكريمة تتحدث عن ظاهرة خاصة بالقمر كما وضحنا، وهذه الآية الكريمة تكملة لوصف الظاهرة البديعة، والتي خلقها وأبدعها بديع السماوات والأرض. جذر كلمة طبق كما جاء في قاموس اللغة لابن فارس الطاء والباء والقاف لها أصل واحد، وهو وضع شئ مبسوط على مثله حتى يغطيه، ومن ذلك الطبق تقول أطبقت الشئ على الشئ، فالأول طبق الثاني وقد تطابقا.

إلى هنا كل كلام ابن فارس عن جذر الكلمة متطابق تمامًا مع الظاهرة التي تحدث للقمر، فالأرض تتطابق تمامًا مع القمر من ناحية، ومع الشمس من ناحية أخرى، في حالة الظاهرة المسماة بالخسوف هذا هو الطبق عن طبق، التطابق الكامل بين الثلاثة أجرام يمكن إدراكه بالحسابات. من المعروف أن قطر الشمس يساوي 400 مرة تقريبًا قطر القمر، والمسافة بين الأرض والشمس تساوي 400 مرة تقريبًا.

المسافة بين القمر والأرض. مدلول تلك الأرقام الحسابية حيث النسب بين المسافات من ناحية وبين الأقطار من ناحية أخرى هو ما يسمى بالتطابق، وتُسبب ما يسمى بالخسوف الكامل أو الكسوف الكامل في حالة الشمس. هذا التطابق يمكن ملاحظته بشكل آخر، حيث يرى الراصد على الأرض قرص القمر من نفس حجم قرص الشمس، مع العلم أن حجم الشمس أكبر بكثير جدًا من حجم القمر، ولكن بسبب قرب القمر بعد الشمس بهذه النسبة الدقيقة، يبدو كلًا من القمر والشمس للراصد في نفس الحجم.

نلاحظ أن ابن فارس في معجمه يعود ويقول إن معنى الطبق هو حال، وها هو يتأثر بتفسير المفسرين، بل واستشهد بالآية الكريمة في تأكيد وصف الطبق بالحال؛ مما يجعلنا أكثر حرصًا في تتبع الجذر اللغوي، ونعول دائما على مدلول الكلمة في كتاب الله.

الآن نستطيع وبكل أريحية وصف ظاهرة حجب نور القمر نتيجة لوقوعه داخل منطقة ظل الأرض عندما تقع الأرض بينه وبين الشمس باسم الاتساق، وليس كما كنا نعتقد أنها خسوف. تحليل الألفاظ وتتبع مدلولاتها من خلال كتاب الله يصب في اتجاه أن الظاهرة التي يطلق الناس عليها خسوف القمر ما هي إلا اتساق القمر مع الأرض والشمس. سبحان من وصفها بهذه الدقة وأنزل كتابه سهل التدبر لكل مدكر.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكثر الصفحات مشاهدة