Translate

الفصل الرابع عشر: يسعون في الأرض فسادًا

الفصل الرابع عشر: يسعون في الأرض فسادًا

لن أتحدث عن الآيات الكثيفة التي تحض على حرية العقيدة وحرية الإنسان في اختيار ما يرغب في اعتناقه دون أي عقاب دنيوي، فهذا الأمر قُتل بحثًا وصدًا وردًا وكل حزب بما لديهم فرحون.

ما سوف اتناوله في هذا الفصل هو شرح آية واحدة لنبين للناس الفرق بين التوجيه الرباني الخالص وبين التوجيه البشري المشوب بالتعقيدات السياسية والنفسية والاجتماعية.

لم يصدر الأمر للناس بقتل أحد داخل المجتمع بشكل قطعي في كتاب الله إطلاقًا وضع تحت إطلاقًا مائة خط، وإنما كان توجيهًا للمجتمع باستخدام الخيارات المتاحة قدر الإمكان وتقليل الخسائر قدر المستطاع.

لدينا في كتاب الله آيتين فقط تتحدث عن أمر القتل وكيفية تعامل المجتمع مع هذا الأمر.

الآية الأولى هي آية القصاص وقد تم شرحها بالكامل في فصل القصاص خلال الجزء الثالث من الكتاب ولا داعي لإعادته هنا.

الآية الثانية والتي سوف نتناولها هنا هي الآية في سورة المائدة.

(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ  ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا  وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(سورة المائدة ، آية 33).

من خلال هذه الآية نجد أنه لابد من توافر شرطين لإنزال العقاب وهما:

الشرط الأول: محاربة الله ورسوله وتعني عداء علني لكل أمر بالإحسان وأمر بالقسط  أنزله الله في كتابه.

الاجتهاد أو المسائل التي تحتمل التأويل لا تعد محاربة لله ورسوله ولكن المحاربة لابد إن تكون في أمر واضح لا لبس فيه.  لقد أوضحت الآية السابقة لهذه الآية شكل هذه المحاربة من خلال عبارات وجيزة.

 (مِن أَجلِ ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِی إِسرَءِیلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفسَا بِغَیرِ نَفسٍ أَو فَسَاد فِی ٱلأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِیعا وَمَن أَحیَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعا وَلَقَد جَاءَتهُم رُسُلُنَا بِٱلبَیِّنَـتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِیرا مِّنهُم بَعدَ ذَلِكَ فِی ٱلأَرضِ لَمُسرِفُونَ)(سورة المائدة، آية 32).

محاربة الله ورسوله كما نفهم هنا هو تعمد إضرار الناس بشكل واضح ومعتمد

الشرط الثاني : هو السعي في الأرض بالفساد وهو كذلك الأضرار الشديد المتعمد.

تكامل هذين الشرطين يعني أن هؤلاء المعنيون في الآية لابد أن يكونوا من المجرمين الذين يبغون الإضرار بشكل متعمد وهذا الإضرار ليس وليد جهل بل مع هو إضرار بعد معرفة  بعدم جوازه وأنه  ضد الأمر بالمعروف الذي أرشد عنه الله ورسوله.

شرطان لا يتحققان إلا في مجرد ضال لا يقيم وزنا لشئ ولا يرعى حرمة محرم.

هل مع تحقق الشرطين جاء العقاب بالقتل؟

لقد أنتقل كتاب الله بعد تحقق الشرطين إلى دفع أربع احتمالات لإنزال العقوبة. لم تأتي الآية الكريمة تخبرنا أنه من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا يقتل كأمر نهائي قاطع.

إنما جاءت بوضع حد أعلى وهو القتل وحد أدنى وهو النفي من الأرض.

إذن الاحتمالات هي: القتل هو الحد الأعلى، ثم الصلب (لا يصل للقتل بالطبع) وهو أقل درجة، ثم قطع الأيدي والأرجل من خلاف، ولابد كذلك أن يكون أقل درجة من الصلب، ثم اخيرًا النفي من الأرض.

وجود الاحتمالات يعني أن المجتمع هو من يقرر بناء على الخطوط العامة التي وضعتها الآية وبناء على حاجته، هذا بفرض أن المجتمع سليم وغير فاسد.

لقد ذهب القرآن أبعد مما نتخيل وأبعد من أرحم القوانين في أكثر الدول المتصدرة حقوق الإنسان عندما استثنى الذين تابوا من احتمالات هذا العقاب قبل القبض عليهم عندما قال في الآية التالية:

(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ  فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)( سورة المائدة، آية 34).

حتى ندرك ماذا حدث لدين الله الذي ارتضاه للناس، تخيل في ظل وجود هذه الآية والإرشاد الرباني الواضح ، خرج أحدهم وقال بكل ثقة من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا فإنه يستتاب أو يقتل كأمر قاطع وجازم.

هل القائل بذلك امتثل أمر الله أم أنه احتكر الأمر الإلهي وقطع وجزم وافترى على الله كذبًا وضيق أمر الله؟

رغم أن الآية الكريمة أعطت مثال لجرم عظيم بل يكاد أن يكون الدرجة القصوى من الإجرام، و مع كل هذا كان التوجيه القرآني هو إعطاء المجتمع خيارات للتعامل مع هذه الحالات وفق تقديرات عادلة وليست قرارات متشنجة.

لقد أفتى رجال  بقتل الناس في أمور هينة لا تصل إلى ما وصلت إليه الآية الكريمة محتكرين الرحمة الإلهية ومصادرة الإسلام لصالحهم.

أين هذا التوجيه الرباني من فتوى القائل (من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل) مسألة كهذه مسألة فلسفية ليس فيها محاربة لله ولا رسوله ولا سعى في الأرض فسادًا ومع ذلك تم إصدار حكم القتل عليه كمن يشرب الماء.

فتوى أخرى (من قال إن الله لم يكلم موسى تكليما يستتاب فإن تاب وإلا يقتل) مرة أخرى مسألة تأويلية اجتهادية ليس فيها محاربة لله ولرسوله بل هي مسألة فكرية بحته والتحريض على من يتناولها بهذا الشكل هو عين الإرهاب الفكري والافتراء على الله.

للاسف الناس في غفلة غير مبررة تجدهم يناصرون أفكارا ضد كتاب الله وضد كلمات الله ولو وقفوا قليلا أمامها ما تجرء أحدهم على تبني ما لم يحط به علما.

لماذا يصر هؤلاء المساكين على حمل أوزار مع أوزارهم، ومشاركة آخرين جرائمهم  من خلال نشر ودعم وتأييد فتاوى يظهر بكل وضوح انحرافها وشذوذها . ما هذه الثقة التي تجعل إنسان يزج بنفسه مع اخر دون ان يفكر وما هي الحجة التي سوف يقدمه لله عندما يسأله لماذا ناصرت وأيدت بكل هذا الحماس ما لا تعلم؟

الأمر ليس نزهة و الكلمة ليست هينة والرقيب لا يغفل ولا ينام.

(وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ  وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا)(سورة الإسراء، آية 13).

تم بحمد الله. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكثر الصفحات مشاهدة