الفصل الثاني: قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
هل القرآن جاء بلسان العرب أم بلسان عربي؟ حاليًا يفهم
الناس تعبير أن القرآن الكريم بلسان عربي على أنه لسان العرب، وهذا غير صحيح
علميًا، ولا يمكن استيعاب الفرق بسهولة.
الحروف المقطعة التي جاءت في افتتاحية السور جاءت لتقول إن
القرآن الكريم ليس بلسان العرب ولكن بلسان عربي. أكثر من مائة كلمة عدها السيوطى
على أنها ليست من لسان العرب تثبت أن القرآن بلسان عربي وليس بلسان العرب.(ملحق
الكلمات في نهاية الكتاب).
تقوم فكرة الكتاب على هذا الاختلاف الواقع بين التسميات
البشرية والتسميات الإلهية. وعن طريق فهم التسميات الإلهية، استطعنا فهم كثير من
الظواهر الطبيعية وكثير من المعلومات الزاخر بها كتاب الله، والتي سوف تجدونها في
الفصول المتتابعة في كل أجزاء الكتاب.
اقتصار فهم كلمة عربي على أنها تعني وصف شخص يتحدث العربية،
يجعل من القرآن كتابًا خاصًا جدًا موجهًا لمجموعة من البشر تقطن تلك المنطقة
المسماة بالعربية. على النقيض من ذلك، لو فهمنا لفظ عربي كما ذكره ربنا في كتابه،
لتحول هذا الكتاب إلى رسالة عالمية ترتبط بقوانين ثابتة يمكن فهمها إذا توفر العلم
القادر على فهم الكلمات ومدلولاتها لأي فرد كان.
اللغة، وأقصد الألفاظ القرآنية، هي لغة كونية تقوم على أسس
وقوانين غاية في الدقة، ما إن يتم اكتشاف هذه القوانين، إلا ويتمكن الياباني
والفرنسي والإفريقي من فهم هذه اللغة وفهم ما تعنيه ألفاظها دون الحاجة لمترجم عربي؛
فهي تشبه إلى حد كبير الرياضيات، أو الفيزياء، أو قُل إذا شئت الموسيقى أو حتى كرة
القدم. هي لغة عالمية تقوم على مقاييس وأقدار محددة، تحتاج لجهود جبارة، وأفكار
ابتكارية وفرق عمل متنوعة لإيجاد هذا القانون وربطه بالقانون الكوني.
اللغة العربية التي تكلم بها البشر تختلف عن بعضها البعض،
حتى في أُصولها القديمة، كما يذكر ذلك الدكتور عبد المجيد عمر في كتابه (منزلة
اللغة العربية بين اللغات المعاصرة دراسة تقابلية) حيث يقول: (نشأت اللغة العربية الفصيحة في شمالي الجزيرة
العربية، ويرجع أصلها إلى العربية الشمالية القديمة التي كان العدنانيّون
يتكلَّمون بها، وتُصنَّف اللغة العربية ضمن مجموعة اللغات الساميّة الوُسطى، أي
ضمن اللغات السامية الشمالية الغربية، وتشمل اللغة الآراميّة، والعبريّة،
والكنعانيّة وهي أقرب اللهجات الساميّة للعربية، وتختلف العربية الشمالية عن
العربية الجنوبية القديمة التي نشأت في جنوبي الجزيرة، المعروفة باللغة الحِميَرية
التي تكلَّم بها القحطانيّون).
لا يمكن الادعاء بأن القرآن جاء على مقاس مجموعة من البشر
يتحدثون اللغة العربية، واعتبار أنهم هم من أنشأوا هذه اللغة الرائعة. أؤمن تمامًا
أنه لا توجد لغة من إنتاج البشر قادرة على استيعاب المفاهيم والمعلومات الإلهية
بشكل صحيح وحقيقي، ولابد أن تكون اللغة إنتاجًا إلهيًا، حتى تستوعب كل هذا الكم من
المعارف الذي لم نصل حتى إلى الإمساك بأحد أطرافه.
القرآن الكريم عبر عن ذلك عندما ذكر لفظ (عربي) مقرونًا
دائمًا بكتاب الله، فكيف نفهم مدلول كلمة (عربي) من خلال كتاب الله؟
كتابٌ عربيٌ
جذر كلمة عربي كما في قاموس اللغة هي (عرب)، وتعني الإنابة
والإفصاح، ومثال ذلك نقول أعرب عن نفسه أي أظهر نفسه بشكل ما أو بصورة ما. نسب
القرآن إلى لفظ عرب يعني أن القرآن يحمل صفات وخصائص الإنابة والإفصاح، أو بمعنى
أخر أن القرآن يفصح عن نفسه بنفسه. على ذلك فكل كلمة قرآنية تحمل هذه الخصائص، ولن
يكون ذلك كذلك إلا أن تكون أصوات الحروف ذاتها ذات دلالات فيزيائية واضحة.
من خلال القرآن سنجد أن لفظ عربي ليس له أي علاقة بمسمى
البشر الذين ينتسبون للعربية فقط بسبب تحدثهم هذه اللغة. وكلمة عرب لم تُذكر ولا
مرة واحدة في كتاب الله، ولم يرد وصف مجموعة البشر الذين يتحدثون العربية بأنهم
عرب أبدًا، والوصف الوحيد الذي يظن الناس أنه يصف العرب هو وصف أعرابي، وهو أيضًا
وصف لا يصف العرب ولكن يصف مجموعة من البشر حاملي صفة وشخصية معينة كما سوف نرى.
وردت كلمة عربي في كتاب الله في أحد عشر موضعًا كلها تصف
كتاب الله بلا أي استثناء.
الآية الأولى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (سورة يوسف، آية 2)
الآية الكريمة تنتهي بلفظ لعلكم تعقلون، أي أن هذا القرآن
كونه عربيًا، يحتاج إعمال العقل، فالخطاب موجه للعالم، وليس كما يقول المفسرون أنه
موجه للعرب بصفة خاصة؛ فليس في كتاب الله ما يوحى أنه للعرب دون سائر الأمم، بل
جاء التأكيد دومًا أن القرآن هدى للناس، والعرب ليسوا كل الناس. فإذا كان الخطاب
موجهًا لكل الناس، فلا يعني لفظ (عربيًا) اللغة التي يتحدث بها أهل هذه المنطقة،
ولكن المعنى المستقيم أن يكون كلماته وألفاظه يبين بعضها بعضًا، وذات دلالات واضحة
لكل من يملك الأدوات المنطقية والعقلية.
هذه الآية نجد فيها إشارة إلى كلمات القرآن الكريم وألفاظه،
في أنها تتبع قانونًا وحسابات يستطيع العقل إدراكها وليست اعتباطية أو تعتمد على
رؤية البشر الشخصية، مرة أخرى إنه القانون الذي ينظم تلك الألفاظ ويضبطها ويخبرنا
أنها ألفاظ نُظمت بقانون صارم. إنها آية تؤكد لنا أن كل كلمة لها دلالة حقيقية ولا
يمكن إن يكون دلالتها عشوائية بحسب أمزجة البشر في كل عصر.
الآية الثانية:
(وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ
وَلَا وَاق)(سورة الرعد، آية 37 )
هذه الآية تخبرنا أن الحكم الذي أنزله الله في كتابه وأمر
الناس به حكمًا عربيًا؛ أي حكمًا يُفصّل بعضه بعضًا، ويفصح عن نفسه. كل محاولات
فهم هذا الحكم بعيدًا عن كتاب الله كارثة؛ فالعلم جاء مقصورًا في هذا الكتاب. ومن
هنا يصبح تدبر اللفظ القرآني ومحاولة فهمه كما جاء في الكتاب ضرورة، وأي تقصير في
ذلك بالحجج التي يسوقها القوم بأن اللغة العربية التي تحدثها القدماء هي الحجة
والمرجع الأساسي لفهم القرآن الكريم مصيبة تُضاف إلى مصائبنا العظام. عدم الانتباه
لمدلول هذه الآية ذو تأثير مباشر واضح في مجموع لا حصر له من الأحكام والتشريعات
التي انتهجت فهم العرب ولم تحاول فهم الكلمة واللفظ كما جاءت في القرآن.
الآية الثالثة: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ
إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ
وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ)(سورة النحل، آية 103)
هذه الآية تحمل الحدود الفاصلة بين لسان العرب أو المتحدثين
بالعربية وبين الألفاظ التي جاءت في القرآن الكريم بلسان عربي مبين واضحة لا لبس
فيها. إذا كان المفسرون اختلفوا في صفة الشخص الذي زعم أهل مكة أنه يُعلم رسول
الله كما ورد في التفسير، فمما لا شك فيه أن هذا الذي يلحدون إليه يتحدث كما
يتحدثون العربية بلسانهم لأنهم يدعون أن محمدًا صلوات ربي عليه يتعلم من هذا الشخص، ومحمد
بشهادتهم يتكلم بلغتهم، ومن كلامهم، ولكن يصعب عليهم فهم ما يقوله بشكل كامل؛ هذا
اللسان الذي يلحدون إليه لابد أن يتحدث كما يتحدثون، إلا أن القرآن وصف لسانه
بالأعجمي.
فسر المفسرون كلمة أعجمى بأنه غير مفهوم ولكن لو نظرنا إلى
كلمة أعجمى في هذه الآية سنجد أن كلمة أعجمي تعني شيئا أخرًا، الجذر الثنائي لكمة
أعجمي هي: العين والجيم تعني زيادة في الشئ أو ارتفاعًا، أما الأصل الثلاثي كما في
قاموس اللغة لابن فارس لها ثلاثة أصول: أحدها الصمت والسكوت، والآخر الشدة
والغلظة، والثالث عضً ومَذَاقة. يقول ابن فارس إن الرجل أو المرأة التي لا تفصح
يقال عنه أو عنها أعجمية أو أعجمي، ومن هنا يمكن أن نقول إن كلمة أعجمى تدل على
عدم الفصاحة، ولا أقصد الفصاحة بمفهومنا الحالي وإنما بمعنى أن الكلمات لا تفصح عن
نفسها، أو أن دلالات الحروف لا تعبر عن المسمى بشكل كامل.
إذا كانت الأسماء لا تعبر عن المسمى ولا تتبع القانون
والبرنامج الإلهي للتسمية، تصبح الكلمة أعجمية، أي تسمية غير حقيقية. هذا هو الفرق
الجوهري بين ألفاظ القرآن وبين ألفاظ ومسميات العرب، فالقرآن لسان عربي كل كلمة
فيه تفصح وتنيب عن نفسها، ومدلول حروفها يصف المسمى وصفاً حقيقياً، بينما كلام
العرب يختلط فيه العربي والأعجمي بنص كتاب الله.
الآية الرابعة: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ
يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)(سورة طه، آية 113).
الآية الخامسة: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (سورة
الشعراء، آية 195)
الآيتان السابقتان استكمالًا لبيان أن القرآن نزل بلسان
عربي، أي أنه يفصح عن نفسه ويُفهم من نفسه بنفسه. وليس المقصود لسان العرب كما هو
متعارف عليه.
الآية السادسة: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(سورة الزمر، آية 28).
في هذه الآية تقرير أن القرآن كونه عربيًا أي يفصح عن نفسه
لا يوجد فيه أي شذوذ، وما نراه من قواعد ومحاولات بشرية لتفسير القرآن، والقول إن
هناك بعض القواعد شاذة أو أن هناك بعض الكلمات لا عمل لها أو أنها زائدة لا يتعدى
كونه تقصيرًا في فهم القواعد بشكل سليم، و نقصًا واضحًا في المعرفة. لو تم فهم
القرآن بالقرآن وقياس الكلمات على بعضها البعض، سوف يستقيم المعنى ويختفي الاعوجاج.
كلما استعصى أمر على الفهم، حاول المفسر أو الباحث تفسيره
بناءً على ما يملكه من معارف، ولو أن الأمر سار بشكل مختلف بحيث أصبحت كل معضلة
مفتاحًا للبحث والتفكير بشكل مختلف ربما اختلف الأمر كثيرًا. الأصل فى العلم عدم
التعجل، ولكن فهم ما يمكن فهمه، ومحاولة البحث خلف ما لا نستطيع فهمه، ومن ثم
التعبير عن الأفكار بلغة الاحتمال وليس باللغة القطعية، حتى لا نشوش على الناس
ونربك تفكيرهم. القول بأن القرآن به كلمات غير عربية أو أنها معربة هو قول يتعارض
كليًا مع ما قرره ربنا بأن القرآن عربي غير ذي عوج، أي مفهوم ويفصح عن نفسه. لا
يمكن أن تكون الكلمات في كتاب الله معوجة ولكن الفهم هو المعوج. لا يمكن لشخص في
وضع مقلوب إدراك الوضع الطبيعي، ومن يسير في الاتجاه العكسي يعتقد أن الآخرين هم
من يسيرون في الاتجاه العكسي.
الآية السابعة: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(سورة فصلت، آية 3)
لفظ «يعلمون» في الآية الكريمة مشتق من العلم، والعلم يقوم
على عمليات عقلية غاية في التعقيد، مثل التحليل والاستنتاج، كون القرآن عربيًا فهو
متاح لقوم يعلمون. لابد أن يمتلك القرآن كونه عربيًا مفاتيح تجعله مفهومًا لكل من
يملك هذه الأدوات العلمية وليس مجرد لغة وراثية. أسوأ ما يمكن أن نواجهه في هذه
الجزئية أن يأتي شخص يصرخ بأعلى صوته إن كنت محقًا فلتخبرنا بمعنى كلمة إبراهيم أو
الأسماء الأخرى الأعجمية في القرآن؟
إنه خلط واضح وتعجل لا يليق بباحث، فما أقوله هنا أن
الشواهد والأدلة تسير في هذا الاتجاه، مجموع الأدلة على أن القرآن مفهوم بذاته
وعربيًا تعني الإفصاح والإنابة أكثر بكثير ولا تقارن بالقول أن القرآن جاء بلسان
القوم الذين يعيشون هذه المنطقة المسماة عربية. العقل غير القادر على وزن الأدلة
وترجيح كفة إحداها اعتمادًا على العقل والمنطق لا نملك له من الله شيئا، وإن كان
يوجد إلى يومنا هذا من يقول بأن الأرض مسطحة ضاربًا عرض الحائط بمئات الأدلة
والشواهد ومتبعًا فقط دليل واحد أو دليلين هل يمكن أن نقنع تلك العقول بقضية معقدة
كقضية اللغة ونشأتها.
الآية الثامنة: (ووَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا
لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ
وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ
عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ)(سورة فصلت، آية 44)
في هذه الآية الكريمة، كما جاء في تفسير الإمام الطبري، (إن
أهل مكة قالوا عن القرآن أأعجمى يستنكرون)؛ هذا دليل دامغ على أنهم لم يفهموا
بعضًا من معاني القرآن، لذلك سواء كان استفهام أو استنكار فهو تقرير أنهم لم
يفهموا بعضًا من ألفاظ وكلمات هذا الكتاب ولم تستقم مع مفاهيمهم، لأن مسميات
الأشياء لديهم خليط من المسميات الحقيقية والمسميات التي ما أنزل الله بها من
سلطان. فلما جاء القرآن وجدوا أنه يحوي كلمات أعجمية لأنهم لم يفهموها.
إن عدنا للآيات السابقة التي تقطع دون شك بعربية القرآن
فسوف نستنتج تبعًا لذلك أن العجمة هي في لسان أهل الجزيرة بشكل لا يمكن إنكاره.
بعد هذه الآية الكريمة يجب أن يتوقف من يقولون إن أهل الجزيرة هم أفضل من فهِم
القرآن؛ هاهو القرآن يقرر أنهم قالوا عن القرآن أعجميًا، فكيف نصدق أنهم أكثر من
فهم القرآن؟
ألفاظ القرآن لا تتبع قانون العرب، بل تتبع قانونًا إلهيًا لم
يتوصل له العرب أو غيرهم حتى الآن، وسكان المنطقة التي تُدعى عربية ما هم إلا
مستخدمين للغة، أو قُل آخر مجموعة من البشر تستخدم اللغة الأقرب للغة الأصلية إلى
حد كبير فقط لا غير.
الآية التاسعة: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ
الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ)(سورة الشورى، آية 7)
الآية العاشرة:
(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (سورة
الزخرف، آية 3)
الآية الحادية عشر: (وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى
إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)(سورة الأحقاف، آية 12)
كما نرى أن عربية ألفاظ القرآن ليس لها علاقة بمسمى العرب
المتداول، وإنما لفظ عربي يصف حالة الإنابة والإفصاح التي تتمتع بها كلمات وألفاظ
هذا الكتاب العظيم.
لا شك أن العرب عندما نزل القرآن تحيروا وقالوا مرة عنه
سحر، ومرة شعر، ومرة أقوال كهنة، ومرة أأعجمي كما أخبر القرآن. إن دل هذا التحير
على شئ فإنما يدل على إدراكهم أن القرآن من جنس اللغة التي يستخدمونها، ولكن
يستخدم مفردات وتراكيب لم يعهدها زمانهم.
الأمر أشبه بأهل قرية أو إحدى الحارات الشعبية ممن يستخدمون
اللغة الدارجة في حياتهم اليومية؛ هذه اللغة متأثرة بعوامل شتى. ومرور الوقت أدى
لظهور مفردات جديدة واندثار مفردات أصيلة، وتَحول في مدلول كلمات كثيرة. لو فرضنا
أن أهل هذه المنطقة ليس لديهم أى نوع من العلم أو المعرفة ثم جاء رجل من مكان آخر
يتكلم بلغة عربية فصحى سليمة مائة بالمائة لم يعهد أهل هذه المنطقة هذه التراكيب
وهذه التعبيرات من قبل. ماذا سوف يكون رد فعلهم؟
لن يستطيعوا إنكار أن هذه اللغة عربية. أقصى ما يمكن فعله
في هذا المضمار هو إنكار بعض الألفاظ التي لم يتعرفوا عليها بشكل كامل، والوضع
الطبيعي في تلك الحالة أن يؤمن أهل القرية أو تلك المنطقة أن ما يتكلم به الرجل هو
الصواب، وعلى ذلك تتم مراجعة كل ألفاظهم، ومحاولة تقويمها ومعايرتها على مفردات
وتعبيرات الرجل المثقف. للأسف ما حدث في الواقع هو العكس، وهو الكارثة التي ألمت
بهذه الأمة.
لقد حاول أهل هذه المنطقة فهم كلام الرجل المثقف من خلال
مدلول الكلمات والألفاظ لديهم، وحاولوا فهم جميع الكلمات الغريبة عن طريق تقريبها
لأقرب معنى متوافق مع كلماتهم وتعبيراتهم، ولم يحاولوا الاجتهاد لإيجاد منهج علمي
يمكن على أساسه مقاربة الكلمات ومقارنتها للوصول للمعنى الحقيقى لها.
الأدهى من ذلك أنهم وضعوا قانونًا ينص على أن كل كلمة من
كلمات الرجل الفصيح ليس لها أصل لديهم لن نلتفت إليها وليس لها أي قيمة، إننا نضرب
الأمثال هنا لتقريب المعنى ومحاولة فهم ما وصلنا إليه وما نحارب من أجله.
ادعاء البعض أن القرآن نزل بلغة أهل الجزيرة وجاء لهم
خصيصًا يشبه الادعاء بأن الرجل المثقف يخاطب أهل القرية أو المنطقة الشعبية بلغتهم
وأهل هذه المنطقة هم أعلم الناس بهذه اللغة، لكن الحقيقة بعيدة كل البعد عن ذلك.
الطريقة المثلى هي محاولة فهم كلام وخطاب الرجل المثقف من خلال كلامه نفسه، وقياسه
بعضه على بعضه، أو محاولة فهمه من السياق العام. مرة أخرى ليس معنى ذلك أن جل كلام
العرب غير دقيق وإنما كلامهم أخلاط بين ما هو عربي وبين ما هو غير عربي وعملية
تنقية اللغة أمر ممكن عند اعتماد اللفظ
القرآني هو اللفظ المؤسس.
من ضمن الأمثلة الواضحة على فهم مدلول كلمة على غير مدلولها
في كتاب الله لفظ (الأعراب) الذي يعرفه العرب على أنهم أهل البادية ولكن القرآن
الكريم له رأى آخر.
الأعراب
من هم الأعراب؟ لفظ أعرابى أو أعراب ليست بعيدة عن لفظ
عربي، فالجذر واحد وهو يعنى الإنابة والإفصاح كما ذكرنا. وبناء على الآيات
القرآنية وتتبع وصف الأعراب في كتاب الله نجد أن لفظ الأعراب يصف حال مجموعة من
البشر ومفردها أعرابي، وهو كل من يحاول الإفصاح عن نفسه؛ أي محاولة تقدم نفسه في صورة من صور الظهور
المجتمعي.
يمكننا القول أن هذا الوصف يصف محب الشهرة والظهور وغالبًا
ما تكون هذه النماذج في مجتمعات بسيطة تفتقر لمعايير حقيقية لفرز أفرادها، حيث
يعتلي سلم الوجاهة الاجتماعية في هذه المجتمعات أصحاب المال أو الأكثر عددًا، بعكس
المجتمعات المتعددة والمختلطة كما سوف نرى والتي يتم الفرز فيها على أساس الكفاءة
ومعايير حقيقية نوعا ما. عشر آيات في كتاب الله جاء فيها ذكر الأعراب، تسع آيات
وصفتهم بأوصاف ذميمة مثل البخل والنفاق والرياء، وآية واحدة استثنت مجموعة منهم.
من خلال تتبع جذر الكلمة ومن خلال مدلول الكلمة في كتاب
الله يتضح- كما سوف نرى- أنهم وجهاء المجتمع وأصحاب الحظوة، يملكون المال ويتصدرون
المشهد، والساعون لذلك. غالبًا ما يكون هؤلاء أتباع مصالحهم وأتباع كل من يعظم
فائدتهم. أما أهل البادية ومن خلال القصص التاريخية والواقع الاجتماعي هم قوم
يتميزون بالصراحة والبساطة، وحتى الغلظة والجفاء التى قال عنها المفسرون أنها من
طبائعهم. هذه الطبائع تتعارض بشكل صريح مع
النفاق والرياء والبخل الذي وُصِفَ به الأعراب. القرآن الكريم ليس كتابًا عنصريًا
حتى يصف مجتمعات كاملة بالنفاق والرياء هكذا، وهذه المجتمعات متباينة لدرجة كبيرة.
سوف نحاول استعراض الآيات الكريمة وفهمها من خلال القرآن
نفسه ومن خلال جذر الكلمات والواقع لكي يكتمل مفهوم الأعرابي أو الأعراب.
الآية الأولى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ
لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(سورة التوبة، آية 90)
لفهم هذه الآية الكريمة ينبغي أن نسأل، من هم الذين يعتذرون
ليؤذن لهم؟
هم بالطبع أهل القدرة على الفعل وأصحاب الوجاهة الاجتماعية
في مجتمعاتهم ويتبعهم ويسير خلفهم أقوامهم، ولولا ذلك ما كان اعتذارهم
مُبررًا. اعتذارهم مع قدرتهم ومكانتهم
جعلتهم عرضة لعذاب أليم من الله، بعكس الذين لا يجدون ما ينفقون أو الضعفاء، فقد
قال الله عنهم أن ليس عليهم حرج.
(لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى
الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا
نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(سورة التوبة، آية 91).
الآية الثانية:(الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا
وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(سورة التوبة، آية 97)
الذين أشد كفرًا ونفاقًا هم أصحاب المصالح، وليس كما يقول
التفسير عموم أهل البادية، الواقع لا يقر بذلك، تميُز أهل البادية بالغلظة والجفاء
لا يتفق مع وصفهم بالنفاق. بل العكس هو الصحيح. الغلظة والشدة والجفاء غالبًا ما
تكون مترافقة بالصراحة وصدق الاعتقاد بغض النظر عن هذا الاعتقاد. صدق الاعتقاد على
النقيض تمامًا من النفاق والكفر. المقصود هنا بالأعراب هم أهل المصالح وأهل الظهور
في مجتمعاتهم، وغالبًا ما يكونون في مجتمعات بسيطة لا تحتكم إلى مقاييس عادلة
وحقيقية في اختيار وفرز الأصلح. يحاول الأشخاص في هذه المجتمعات الإعراب عن أنفسهم
والظهور، سواء عن طريق المال أو تصدُر المشاهد العامة مخبرين عن حالهم، متطلعين
لقيادة مجتمعاتهم البسيطة.
لماذا أجدر ألا يعلم الأعراب حدود ما أنزل الله على رسوله؟ إذا
كان الأعراب كما يقول الناس هم أهل البادية فهذا حرمان لأهل البادية من العلم
والمعرفة، وهم أحق الناس بالعلم والمعرفة حتى تستقيم مفاهيمهم، إنما الأعراب هنا
هم أهل كفر، أي يعرفون الحق ويجحدونه، وهذا ينطبق تمامًا مع الشخصيات المنافقة
المحبة للظهور والوجاهة وخصوصًا إن كانوا ليسوا بأهل لهذه المكانة الاجتماعية.
هذا النموذج من محبي الظهور والتسلق لا يضع الله في حسابه،
وإنما يضع السلطة والقوة التي تمنحه دورًا مميزًا في مقدمة اهتماماته، دائم
الحركة، متطلعًا لإبراز دوره، وفي أثناء محاولاته الدؤوبة لكي يتبوأ مكانة رفيعة
في مجتمعه، يخلط بين عبادة البشر وعبادة الله في صورة من صور الشرك الواضح، يخطب
ود السلطة، ويخضع للقوة، ويسير خلف مصالحه. أمرُ الله بالنسبة له مضيعة للوقت، ولا
يسمن ولا يغني من جوع، وتقوى الله لا تعنيه، ومفاهيم مثل المساواة والعدالة ترهقه
وتحط من شأنه. هؤلاء مهما ذكرتهم بالله، نفروا، ومهما وعظتهم، هجروا؛ لذلك أجدر
ألا يعلموا حدود ما أنزل الله، فهم مشركون بالله، لن ينفعهم التذكير ولن يزيدهم
إلا صدودًا. إن قلت لهم اتقوا الله، اتخذوها سخريًا، وبآيات الله يستهزئون، دين
هؤلاء الأعراب مصالحهم وفائدتهم فلا ترجو منهم خيرًا.
الآية الثالثة: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا
يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(سورة التوبة، آية 98)
في هذه الآية الكريمة ملمح هام من ملامح هذه الشخصية؛ إذ يرى
هذا الشخص أن ما ينفق مغرمًا، أي إنفاق بدون فائدة، ينفق قهرًا، وجبرًا، رغبًة في
نول مكانة اجتماعية أو الحفاظ على مكانته الاجتماعية الحالية على اعتباره من وجهاء
المجتمع، ورغبة في الحفاظ على وضعه الاجتماعي. هذه الصفة المقيتة تجدها في كل
أولئك المنافقين الوصوليين الذين يحاولون بشتى الطرق الوصول إلى مكانة اجتماعية
مرموقة عن طريق تقديم أنفسهم للمجتمع من خلال سلطة المال، وإبراز دورهم أمام
السلطة على أنهم قادرون.
لا شك أن أهم طرق الوصول للوجاهة الاجتماعية هي الإنفاق في
المصالح العامة وأوجه البر التي تنفع الناس، وهذا الإنفاق غالبًا ما يكون قهرًا
ورياءً لا يُبتغي به وجه الله. الملاحظة التي يجب أن نأخذها في الحسبان من خلال
الآية الكريمة هي: أن هؤلاء القوم أهل مقدرة مالية وليسوا من عامة الناس.
الآية الرابعة: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ
وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ
فِي رَحْمَتِه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(، سورة التوبة، آية 99)
هذه الآية رحمة من الله إذ استثنى من الأعراب فئة يؤمنون
بالله وباليوم الآخر حتى لا يصير الحكم عامًا على كل من يحاول اعتلاء قمة الهرم
الاجتماعي وإبراز دوره؛ حيث هناك منهم المصلحون الحقيقيون ولكنهم قليل حيث لم يأتِ
ذكرهم بالخير إلا في آية واحدة من بين عشر آيات في كتاب الله، وكأن نسبتهم لا تمثل
10 بالمائة من نسبة الأعراب السيئين.
الآية الخامسة: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ
مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ
إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)(سورة التوبة، آية 101).
الآية السادسة: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا
يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ
ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ
مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا
كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(سورة التوبة، آية 120).
قد يختلط الأمر في الآيتين السابقتين على كثير من الناس، إذ
أن الفرق واضح هنا بين أهل المدينة والأعراب، ولكن لو دققنا البحث سنجد أن الأعراب
بصفاتهم الذميمة يتواجدون ويظهرون في المجتمعات البسيطة القائمة على الأحادية ذات
الصوت الواحد، حيث التمييز في هذه المجتمعات لا يقوم على أي أساس حقيقي وصادق، بل
هي محاولات فردية من الأشخاص في إبراز دورهم والإفصاح عن أنفسهم؛ يعتمدون بشكل
أساسي على دور القبيلة أو دور المال، دون أي اعتبار حقيقي للكفاءة الإدارية.
على العكس من ذلك، مجتمع المدينة هو مجتمع أخلاط تختفي فيه
الأحادية والقبيلة على حساب الكفاءة والقدرات الحقيقية إلى حد ما. إنه الفرق
الواضح بين المجتمعات ذات الرؤية الواحدة التي يكثر فيها أمثال هؤلاء الأعراب
مقابل المجتمعات المتعددة التي يختفي فيها هذا الصنف من الناس، وتحل التعددية محل
الفردية.(راجع الفرق بين القرية والمدينة – الجزء الأول- الفصل السادس)
الآية السابعة: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا
وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ
يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا
قَلِيلًا)(سورة هود، آية 20)
كلمة بادون أشكلت على الناس، حيث فسرها المفسرون على أنها
أهل البادية، ولكن لكي نصل لمدلول الكلمة سوف نستعين بآية أخرى في كتاب الله في
سورة هود:
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن
قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا
الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن
فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)(سورة هود، آية 27)
في هذه الآية فسر المفسرون بادي الرأي على أنهم أراذل القوم
أو سفلة القوم، ولكن من خلال جذر كلمة بادي وأصلها بدو التي تعني الشئ الظاهر أو
السطحي، وهو عكس التعمق، نجد أن بادي الرأى تعني أصحاب الرأي الساذج أو ما نسميهم
العامة الذين ليس لديهم عمق و سطحيون.
بالعودة إلى الآية محل دراستنا، نجد أن معنى بادون في
الأعراب تعني أنهم تمنوا لو أنهم لم يشاركوكم بقوة ولم يُحسبوا على فريقكم. إنها
أمنية المنافقين دومًا وأصحاب المصالح إذا تورطوا في دعم قوة ما ثم بدا لهم أن هذه
القوة لن تفلح أو لن تستمر، تمنوا في الحال أن لو كانت مشاركتهم كانت سطحية وغير
ظاهرة حتى لا يفقدوا مكانتهم لدى القوى الأخرى.
بادون في الأعراب أي سطحيون في إظهار أنفسهم والإفصاح عن
دورهم بينكم، تمنوا لو أنهم لم يتعمقوا معكم بالشكل الذي يمكن أن يضر مصالحهم
عندما يدور الزمن دورته.
عندما يرى هؤلاء أن الكّرة
عليكم، سوف يندمون على دعمكم، وسوف يتلمسون أخباركم فقط ليحددوا توجههم؛ فإن كان
الأمر لكم تبعوكم، وإن كان عليكم جنبوا أنفسهم تكلفة نصرتكم ومعاداة قوم آخرين، قد
تكون مصالحهم معهم أكثر وثوقًا ونفعًا.
الآية الثامنة: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ
الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا
يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ
لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ
نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)(سورة الفتح، آية 11)
في الآية الكريمة أيضًا إشارة إلى أن هؤلاء الأعراب أصحاب
أموال وليسوا من عامة الناس، وهو ما ينطبق تمامًا مع متصدري المشهد في المجتمعات
البسيطة، حيث أصحاب الأموال في هذه المجتمعات أصحاب حظوة وشهرة لا تخطئها العين في
مجتمعاتهم.
الآية التاسعة:(قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ
سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ
يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن
تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا)(سورة الفتح، آية 16).
نجد هنا أن الذين يُدّعون إلى الحروب هم أصحاب القدرة ورؤوس
المجتمعات والقبائل، ومن ثم تتبعهم قبائلهم أو مجتمعاتهم، إذ لا معنى من دعوة من
لا يملك القدرة سواء المالية أو العددية. مثال غزوة أُحد لا يمكن تجاوزها عندما
قرر رؤوس المنافقين، وهم بالطبع أصحاب الحظوة في مجتمعاتهم الانسحاب قبل بدء
المعركة، وتبعهم نفر ليسوا بالقليل من عشائرهم؛ فالخطاب هنا موجه لأصحاب الحظوة
والشهرة في مجتمعاتهم وليس كل الأفراد.
الآية العاشرة: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ
تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ
أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(سورة الحجرات، آية 14)
صفة إضافية توضح لنا من هم هؤلاء الأعراب ومن يعبدون
بالضبط؛ فعندما قالوا آمنا، والإيمان هو مخالطة العمل للقلب أو استقرار الاعتقاد
في القلب وتصديقه، صحح ربنا كلامهم وقال بل قولوا أسلمنا، وأسلمنا هنا لا تعني
الخضوع لله بسبب عدم مخالطة القلب، وإنما الخضوع للقوة والتسليم بالأمر الواقع.
هذا النوع من التسليم هو صفة ملازمة لتلك النماذج التي ترغب في القفز من السفينة
الغارقة واللحاق بالسفينة الناجية.
ملاحظة جديرة بالاهتمام: ذكر لفظ الأعراب في عشرة مواضع في كتاب الله منها ستة مواضع في سورة التوبة، والتي جل وصفها عن المنافقين، ومرتين في سورة الفتح. من الواضح أن ظهور الأعراب، ومحاولتهم حجز مكان مع القوى الصاعدة كان مع بداية ظهور القوة الجديدة بقيادة رسول الله؛ فوصف الأعراب على أنهم أهل البادية لا يستقيم مع غزارة ذكرهم في كتاب الله والإشارة لهم على أنهم يحاولون دائمًا الظهور وتقديم أنفسهم للقوة الصاعدة، وإنما وصفهم بأنهم أصحاب الحظوة والشهرة في مجتمعاتهم، وأصحاب قدرة مالية، ويسعون دائمًا للتميز والظهور هو الأنسب والموافق للمشاهد القرآنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق