الفصل الثاني عشر: إنك لعلى خلق عظيم
إنك لعلى خلق عظيم؛ هل هذا التعبير القرآني وصف أخلاق رسول الله؟
إنها آية بسيطة عليها إجماع تام أن المقصود هو أخلاق رسول
الله صلوات ربي عليه.
عند تحليل ألفاظ الآية وفهم السياق وجدنا أنها تعنى شئ أخر
تبعا لكتاب الله .
الآية الكريمة التي أعني هي الآية الرابعة في سورة القلم
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)( سورة القمر آية 4).
من أين جاء هذا التفسير وهذا التأويل ؟
العرب تقول على التصرفات والسلوك خلق وهذا اللسان لسان
العرب ولذلك عندما سأل الناس عن هذه الآية لم يكن
لدي المفسر سوى رسول ينطبق عليه هذا القول وهو بالفعل صاحب التصرفات
والسلوك القويم.
لو نظرنا إلى كتاب الله سوف ندرك إن اللسان العربي الخاص
بالقرآن لم يذكر التصرفات وسلوك الإنسان بالأخلاق مطلقًا وليس ثمة كلمة واحدة تدل
على هذا المعنى سوى هذه الآية التي زعم المفسر أنها تعني سلوك رسول الله.
سورة القلم من بدايتها تتحدث عن بدايات الأشياء وكما ذكرت
في هذا الكتاب فصل علم بالقلم أن المقصود
بنون هو المادة الأولية التي جاء منها الخلق وأن القلم هو الآلية التي انتظمت بها
هذه المادة تعطي بالنهاية التصميمات الرائعة لكل الخلائق.
عندما تأتي الآية الرابعة في سورة القلم لتتحدث وإنك على
خلق عظيم بعد الإشارة العظيمة لبدايات الخلق وكذلك بالنظر إلى مادة خلق وهو تصف
الخلق والتكوين المادي أيضا سندرك على الفور أن الخطاب هو خطاب للإنسان بصفة عامة
يشير إلى عظمة خلقه وتكويناته التي أدت بالنهاية إلى ظهور هذا الإنسان.
لهذا اللفظ تحديدا نظير آخر في كتاب الله هو اللفظ الوارد
في سورة الشعراء.
(إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ
الْأَوَّلِينَ)(سورة الشعراء، آية 137).
خُلُقُ الأولين هنا ليس معناه اختلافات الأولين أو أكاذيب
الأولين كما جاء في بعض التفاسير وإنما تعني أن هذا الذي تدعيه إنما من صنع
الأولين. الأولين هنا لا تعني الآباء والأجداد بل هي تعني السابقين أو تعني
بمفاهيمنا المعاصرة الطبيعة أو الطاقة العمياء الشئ الأول الذي بدأ منه الخلق بدون
خالق.
هذا القول هو محاولة لدحض فكرة الخالق واعتبار أن الخلق
إنما جاء من ترتيبات أخرى غير التي يذكرها الرسل.
إنها ببساطة محاولة للهروب من فكرة الخالق وفكرة الإله الذي
يرسل تكليفات إلى فكرة خلق جاء من المجهول ولا حاجة إلى تكليفات.
الدليل الذي لا يقبل الشك في أن الآية الكريمة تتحدث عن
الخلق وأن القوم يرفضون فكرة الخالق الحكيم والذي يطلب منهم تكليفات هو أن هذه
الآية سبقها آيات تتحدث صراحة عن الخلق المادي ، بأنعام وبنين وجنات وعيون .
(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ(132)
أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(134) إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ
أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ(136))( سورة الشعراء، آيات 132- 136).
لفظ خُلق تعني الخلق والتكوينات المادية للأشياء القائمة
بالفعل أو التصميمات الملموسة وليست تعني السلوك كما أجمع عليه المفسرون. ما يقارب
مائتي موضع في كتاب الله ذكرت مادة خلق جميعها يصف الخلق المعروف ولا تصف ما يسمى
بسلوك الإنسان إلا ما ادعاه العرب على هذه الآية والتي لا يؤيده سياق الآيات ولا
مادة الكلمة .
حتى تكتمل الصورة لابد أن نبحث عن وصف الأخلاق أو وصف
السلوك والتصرفات في القرآن وكيف وصفها الله سبحانه وتعالى.
وصف الله سبحانه وتعالى تصرفات الإنسان بلفظ العمل وقد جاء
هذا اللفظ في مواضع عديدة في كتاب الله موصوفا بالصلاح ومرة بالسوء . كذلك كثيرًا
ما يأتي لفظ العمل بعد وصف الإيمان بالله وهو ما يعني تصرفات الإنسان وسلوكه.
(إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَٱلَّذِينَ
هَادُوا وَٱلنَّصَرَى وَٱلصَّبِـِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ
ٱلْءَاخِرِ وَعَمِلَ صَلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)(سورة البقرة، آية 62).
(فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لَآ
أُضِيعُ عَمَلَ عَمِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ
هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَرِهِمْ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَرُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ
حُسْنُ ٱلثَّوَابِ)(سورة آل عمران، آية 195).
من الآيات التي توضح إن مفهوم عمل يصف تصرفات وسلوك الإنسان
بشكل عام هي الآية التي وصف الله بها ابن نبي الله نوح من انه عمل غير صالح ولم
يقل الله أنه فعل غير صالح.
(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(سورة
هود، آية 46).
اللفظ القرآني وصف أصحاب السلوك القويم بأنهم من الذين
يعملون الصالحات بينما أصحاب السلوك المنحرف بأنهم يعملون السوء.
هذا هو أحد الفروق بين لسان العرب الذي توهم أن لفظ خلق بضم
الخاء يصف سلوك الإنسان فجاء القرآن يضبط هذا الوصف من خلال اللسان العربي المبين
ويقول للإنسان أن لفظ خلق ومادة خلق تعني الخلق والتكوينات ولا تعني سلوك وتصرفات
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق