الفصل الأول: علم آدم الأسماء
اللغة لدى الإنسان هي وعاء الأفكار، وبدون لغة صحيحة سوف
يكون التعبير عن الأفكار زائفًا في كثير من الأحيان، بل ويمكن أن يكون التأثير
مقلوبًا ومعكوسًا على غير الحقيقة وغير المراد تمامًا.
مثال بسيط، جاء في التراث، خلال حروب الردة، حيث أسر جيش خالد بن الوليد مجموعة على رأسها رجل
يقال له مالك بن نويرة، وكانت من وصايا الخليفة أبو بكر الصديق للجيش (أن يؤذِّنوا
ويقيموا إذا نزلوا منزلًا، فإن أذَّن القوم وأقاموا، فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا
فلا شئ إلا الغار (الغار يعني الهجوم عليهم)).
عندما أسر الجيش هذه المجموعة، اختلف أصحاب خالد بن الوليد
هل هؤلاء القوم أقاموا الصلاة أم لا. قبل اتخاذ أي قرار، كانت الليلة شديدة البرد،
فأمر خالد مناديًا فنادى: (أدفئوا أسراكم) يقصد وقايتهم من البرد الشديد بالوسائل
المتاحة وقتها. لفظ أدفئوا في لغة كنانة
(قبيلة عربية) تعني القتل، فقتل الجنود الأسرى، حيث كان القائمين على هؤلاء الأسرى
رجال من قبيلة كنانة.
مثال واضح على كيف يمكن للغة أن تحدث كوارث إذا لم تكن
معبرة تعبيرًا حقيقيًا عن الفكرة. الفرق بين مدلول اللفظ القرآني وبين مدلول
الكلمة لدى الناس أحدث خلطًا لا مثيل له، وتباينًا في الآراء، واختلافًا لا يمكن
أن تخطئه العين، إنه الفرق بين مسميات حقيقية في كتاب ينطق بالحق، وبين مسميات
بشرية خليط بين مسميات حقيقية ومسميات بشرية يحتمل فيها أن تكون حقيقية وأن تكون
غير حقيقية كما سوف نرى.
سؤال هام، لماذا اللغة الآن ولماذا؟ لم تكن عائقًا أمام
تقدم الأمة في السابق وفي عزم مجدها؟
الإجابة يمكن تلخيصها في نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأولى، لم يكن هذا
الفرق ذا تأثير ملحوظ بسبب بدائية المجتمعات وقتها، وتغلب عادات القبيلة، فإذا حدث
خلل في أمر ما، فلن تحدث ضجة وجلبة أخلاقية كبيرة في مقابل ثورة معرفية وأخلاقية
على كل المستويات الأخرى. مثال ذلك حرية الاعتقاد الراسخة في كتاب الله، ومع ذلك
اختبأت تحت المفهوم البشري وأصبح إجبار الناس على الإيمان واجبًا مقدسًا، رغم أن
هذا المفهوم لا يمت للقرآن بصلة.
مع تقدم الأمم الأخرى، وبفعل التطور العقلي والمعرفي، وهو
الاتجاه الطبيعي للبشرية، ظلت المفاهيم القديمة لدى "العرب" سائدة
ومسيطرة، فضّلت الأمة عن المفاهيم الحديثة، وأصبحت تقتات على ما يصل إليها من تطور
أخلاقي من الأمم الأخرى، بل وفي كثير من الأحيان حاربت الأمة هذا التطور الأخلاقي
بحجة أنه يعادي كتاب الله كما حدث في مسألة الرق والعبودية.
النقطة الثانية التي أسهمت في تقدم الأمة في السابق، هي أن
القرآن الكريم كان وما يزال يحمل داخل كلماته وألفاظه كنوزًا معرفية لا حصر لها،
متجددة تحتاج تفاعل مستمر معها.
عندما تفاعل المعاصرون وقتها مع هذه الألفاظ والكلمات، حدثت
طفرة غير مسبوقة على المستوى المعرفي والأخلاقي، تمثلت في مفهوم جديد للعدالة،
والمساواة، وعدم العنصرية، وحرية الاعتقاد (التخلص من سيطرة البشر)، وحرية
الاختيار على قدر العصر الذي يعيشون فيه. على قدر استيعاب العقول وقتها، وعن طريق
هذا التفاعل الأول، وُلدت أمة قوية تصدر لمحيطها مفاهيم غاية في الروعة.
تقدمت هذه الأمة رغم العوائق العديدة التي تمثلت في الحكم
المنفرد، وإذكاء نعرات قبلية لا تمت للإسلام بصلة، ولولا هذه العوائق، لصارت جميع
الأمم تنشد الإسلام. قوة الدفعة الصاروخية الأولى لهذه الأمة استطاعت تخطي كل
العقبات، وساعد على ذلك عدم وضوح تلك المفاهيم الإنسانية الراقية لدى الأمم الأخرى
بنفس قوة وضوحها لدى الأمة الإسلامية.
مع استمرار تقدم الإنسانية وتطورها، بدأت أمم عديدة تتعرف
وتستشعر قيمة القيم الإنسانية ومفاهيم مثل: الحرية، وحق الإنسان في التعبير، وحق
الشعوب في تقرير المصير. في هذا الوقت، كانت الأمة الإسلامية متوقفة تمامًا عن
التفاعل مع كتاب الله، و مكتفية تمامًا بما حصلته في عصورها الأولى، ظنًا أنه لا
يوجد جديد، ولا يمكن فهم القرآن أفضل من الفهم السابق.
بذلك أصبحت مفاهيم ومدلولات الكلمات لدى القبائل العربية
القديمة هي المسيطرة على كتاب الله. في هذا الجو الملئ بالمفاهيم البشرية القديمة،
بدأت مفاهيم عصرية مثل الحرية،، وحق تقرير المصير، حقوق الإنسان وحق التعبير،
والديموقراطية والتطور لا تجد لها مكانًا في الفكر الإسلامي، بل على العكس من ذلك-
كما ذكرنا- ظهر تيار يلعن تلك المفاهيم باسم الإسلام، ويكفر معتنقيها، ويصادر حق
المعرفة والتفكير لصالح الجيل الأول.
نتيجة طبيعية لهذا الجمود الفكري، كان تراجع مكانة وقيمة الأمة
"الإسلامية"، لأن الله لا يحابي الجمود والتحجر ولايرفع الجهل.
سؤال منطقي ومُلح، كيف لنا أن نفهم كلمة ما بخلاف ما فهمه
أهل الجزيرة، أو ما يسمون بالعرب؟
للأسف ننطلق من مسلمات وضعناها لأنفسنا وصدقناها رغم
الدلائل التي لا تقبل الشك والتي تشير إلى غير ذلك. هل كان العرب (المقصود سكان الجزيرة) هم أعلم
الناس بألفاظ القرآن وكلماته؟
القرآن نفسه ينفي ذلك صراحة عندما سأل
"العرب" عن القرآن أأعجمي
وعربي؟
)وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ
وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ((سورة فصلت - آية 44).
معنى قولهم أأعجمي؛ تعني أن كثيرًا من الكلمات القرآنية لم يفهمها
المتحدثين بالعربية وقتها، واحتاجت لمجهود لفهمها وبيان معناها. لو كانوا بالفعل
أعلم الناس باللغة كما يسلم بذلك أغلب
الناس بل كلهم بدون مبالغة ، لماذا كان
القدماء في حيرة من أمرهم ولماذا وصفوا كلمات القرآن بأن بعضها أعجمي.
المفسرين أنفسهم
اختلفوا في تفسير معانٍ كثير من الكلمات، وتنوعت آراؤهم حولها، مما يدل على
أنهم لا يملكون معنىً محددًا للكلمة، بل هي مجرد اجتهادات ووجهات نظر شخصية. كيف
مع هذا الكم الهائل من الكلمات المختلف عليها يأتي من يقول أن العرب هم أهل اللغة
وهم أهل الفصاحة التي لا يشق لها غبار. هذا الإدعاء صحيح مائة بالمائة عندما لا
يكون هناك مقياس سليم يقاس عليه ولكن مع وجود القرآن تأكد لنا زيف هذا الإدعاء.
هناك كثير من الإشكاليات في اللغة ولكن لا يتم تداولها بشكل
كبير تشير إلى أن هناك مشكلة حقيقية ولكن بدلا من عمل ورش عمل وبحث الأمر بشكل
علمي ومنهجي لفهم الأختلاف خرجت مئات التبريرات والتخريجات التي لا تصمد طويلًا
أمام التفكير العلمي.
بعضا من هذه التخريجات تقول أن القرآن استخدم جميع لهجات أو
لغات العرب في القرآن وأنه لا توجد كلمة إلى والعرب استخدموها من قبل.
هذا التخريج نفسه ينفيه الباحثين والدارسين القدامى
والمحدثين عندما استخرجوا كم من الألفاظ والكلمات التي ظنوا انها من اللغة
السريانية أو الآرامية أو غيرها من اللغات.
هل الكتاب الذي نعتقد جميعا أنه كتاب الله يضع هكذا كلمات
من كل حدب وصوب ولتحاول كل قبيلة أو تجمع بشري فهمه بحس مدلول الكلمات لديها.
لماذا يستخدم القرآن ألفاظ مختلفة ومتنوعة كما يزعمون وهذا الإستخدام سوف يشتت الناس؟
هذه الطريقة في انتقائية الألفاظ من لهجات متعددة لا تجوز على كتاب بشري محكم فكيف قبله الناس
على كتاب الله ؟
لماذا لم يضع الناس احتمالية أن القرآن يتحدث لغة حقيقية مائة بالمائة؛ وأن اللغات التي يتحدثها
العرب وقت نزول القرآن كانت خليط بين الحقيقي وغير الحقيقي؟ رغم وضوح هذا
الاحتمال بشكل منطقي، ورغم إشارة كتاب
الله إلى ذلك كما سوف نرى، إلا أنه لم يتم أخذ هذا الاحتمال في الحسبان، ودراسته بشكل جدي.
لقد تعرضنا لكثير من الأمثلة في كتاب الله، وأشرنا كيف أن
الإدعاء بأن سكان الجزيرة وقت نزول القرآن كانوا أعلم الناس بالقرآن هو إدعاء زائف
. قد يكون هؤلاء الناس أعلم الناس بلغتهم التي يتكلمون بها ولكن القرآن جاء من
الأصل النقي للغة والتي لم يكن نقيا وقتها بالكامل لدى سكان الجزيرة. يجب الانتباه
إلى هذه الحقيقة والتي يؤيدها اللفظ القرآني والتفاسير التي بين
أيدينا وكيف أن القوم كانوا يجهلون أكثر مما يعرفون ولكن لسبب ما جعلناهم حكاماً
على كتاب الله وكلمات الله.
لا تثريب عليهم والله يحكم بين العباد ، إنما السوء على
الذين استكانوا واستسلموا رغم وضوح الرؤية ورغم جلاء الإدلة التي تثبيت أن القرآن مختلف تماماً عن تصور
القدماء، بل هو كتاب فريد ذو تركيبة لفظية لا مثيل لها.
اللغة، أو إن جاز لنا التعبير علم الدلالات الصوتية والقدرة
على التعبير عن الأشياء، هي العلم الذي أعطاه الله لآدم، ذلك العلم الذي ميزه
وجعله جاهزًا لتولي مسؤولية التكليف، وقادرًا على التعبير عن أفكاره وصياغتها بشكل
سليم، والتي أسهمت فيما بعد بشكل أساسي في تطور البشرية. لكي نستطيع فهم هذه
الإشكالية، لابد أن نلقي نظرة سريعة على نظريات نشأة اللغة، أو على الأقل النظريات
الأشهر في نشأة اللغة ومن ثم فهم التعبير القرآني البديع ( علم آدم الأسماء كلها).
نظريات نشأة اللغة
ثلاث نظريات رئيسة تفسر نشأة اللغة، وتأتي نظرية ما تعرف
بنظرية الاصطلاح في المقدمة من حيث عدد المؤيدين والمتحمسين لها. هذه النظرية هي
السبب الرئيس الذي يعيق فهم كتاب الله بشكل صحيح من وجهة نظري، واستمرار العمل بها
لا يمكن معه استخراج أي معرفة وعلم حقيقي يتناسب مع كتاب الخالق صاحب العلم المحيط والقدرة المطلقة.
على العكس من ذلك، نجد أن النظرية التوقيفية التي نتبناها
مع بعض التعديلات قادرة على فك رموز وحل إشكالية فهم الألفاظ القرآنية من خلال
مدلولها في كتاب الله نفسه، ومن خلال سياق الآية وفهم الحالة التي عبر عنها
اللفظ. نظرة سريعة على هذه النظريات لكي
نقف ندرك أبعاد المشكلة التي نحن بصددها.
النظرية الأولى: نظرية المحاكاة
نشأة اللغة لدى الإنسان عن
طريق تقليد اصوات الطبيعة حوله، حيث تنص النظرية على أن الإنسان استطاع محاكاة
أصوات الطبيعة المحيطة به وتقليدها، ومن ثم إنتاج مادة صوتية تعبر عن احتياجاته
وأفكاره.
أشهر من تبنى هذه النظرية من العرب؛ الخليل بن أحمد
الفراهيدي، وسيبويه. كان الاعتقاد أن أصل جميع الأصوات ناتج من الأصوات المسموعة
مثل: صوت خرير الماء، ودوي الريح، وأصوات الحيوانات، والطيور مثل صهيل الفرس،
ونعيق الغراب، ونزيب الظبي.
يقول عبد العلايلي في كتاب الأنطاكي عن حروف اللغة العربية
في سياق هذه النظرية: (إن كل حرف من حروف الأبجدية العربية يدل على معنىً خاصٍ،
وأنه إذا عُرفت معاني الحروف، أمكن معرفة معنى الكلمة العربية ولو لم تكن معروفة
من قبل. ويعتقد العلايلى أن لهذه الحروف معانٍ فلسفية لا يظن أنها خطرت على قلب
الإنسان العربي القديم).
شئ عجيب ما يقوله عبد العلايلي فما يقوله حرفيًا يؤيد أن
النظرية هبة إلهية رغم أن هذا الطرح جاء في معرض الحديث عن نظرية المحاكاة.
نحن كذلك نعتقد بهذا التوافق العجيب
وهذه العلاقات البديعة بين الحروف بعضها البعض ونعتقد تمامًا بأن لكل حرف
معنى فيزيائي حقيقي إضافة للبعد الفلسفي . لو عُرف مدلول الحرف الفيزيائي بشكل
سليم فسوف نتمكن من تسمية الأشياء وفهم خواصها حتى ولو لم نكن على دراية بها من
البداية.
أشهر الاعتراضات على هذه النظرية جاءت حول عدم معقولية أن
تكون اللغة مجرد محاكاة الأصوات الطبيعية. إذًا لو كانت كذلك، لكانت اللغة في
العالم بأسره لغة واحدة وليست مجموعة لغات.
النظرية الثانية: نظرية الاصطلاح
ملخص هذه النظرية أن اللغة هي اصطلاح يتم بين أفراد
المجتمع، أي اتفاق على استخدام المسميات في وصف الأشياء، وعلى ذلك فإن الأسماء ليس
لها أي علاقة بمسمياتها.
أول من قال بهذه النظرية هو الفيلسوف الإغريقي ديمقريطس،
ومن أهم فرضياته على صحة هذه النظرية هو أن المسمى الواحد قد يقبل عدة أسماء، ومن
الممكن أن يتبدل اسمه ولا يتبدل هو. وهذه الفرضية تقول إن اللغة إنتاج بشري صرف
وليست قوة إلهية.
مؤيد هذه النظرية بشدة السويسري فرديان دوسوسير، حيث يقول
إن العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية أو عشوائية ليست مبررة، إلا أنه أقر بوجود
شئ من العلاقة بين الدال والمدلول حيث هناك بعض من الربط الطبيعي بين الدال
والمدلول.
الاعتراض الأشهر على هذه النظرية: كيف يتفق الناس على
استخدام مصطلح معين وهم لا يملكون وسيلة للتفاهم، إذ أن تسمية شئ معين في حد ذاتها
فكرة، وهذه الفكرة كي يتم الاتفاق حولها لابد من لغة للتفاهم، فذلك يعنى أن اللغة
لابد أن تكون سابقة الفكرة.
نظرية الاصطلاح هي النظرية
السائدة حاليًا في فهم اللفظ القرآني حيث يًفهم اللفظ من خلال مدلول الكلمة لدى
الناس بغض النظر عن معنى الكلمة أو المدلول الحقيقي للفظ.
لذلك سنجد كثير من الكلمات لها معاني مختلفة تمامًا، بل الكلمة الواحدة تحمل معنيان متضادان في بعض
الأحيان وما هذا إلا نتيجة حتمية اعتباطية
العلاقة بين الدال والمدلول.
النظرية الثالثة: النظرية التوقيفية
يُعتبر الفيلسوف اليونانى هيرقليطس هو أول من أشار لهذه
النظرية، حيث يَعتبر أن اللغة هبة إلهية لا دخل للإنسان فيها، وأن الأسماء تدل على
حقيقة المسميات وطبيعتها، وليست اصطلاحًا أو تواطؤًا بين البشر. سادت نظرية
التوقيف هذه فترة كبيرة بما لاقته من تأييد رجال الدين لها، ومما عزز هذه النظرية
في العصور القديمة وجود عبارات في الإنجيل، وخصوصًا إنجيل يوحنا حيث جاء فيه عبارة
(في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله).
استمدت هذه النظرية قوة إضافية بعد ظهور الإسلام، واعتمادًا
على الآية الكريمة في سورة البقرة (وعلم آدم الأسماء كلها)، صار لدينا دليل إضافي
على توقيف اللغة باعتبارها وحيًا إلهيًا خالصًا لا دخل للإنسان فيه. ومن أشهر
العلماء الذين تبنوا وجهة النظر هذه من علماء المسلمين، ابن دُريد في كتابه
الاشتقاق، وابن فارس في كتابيه معجم مقاييس اللغة والصاحبي في فقه اللغة.
هذه النظرية توارت في العصر الحديث لحساب نظرية الاصطلاح،
ومع ذلك كان هناك نفر قليل ينادي على استحياء بهذه النظرية، من هؤلاء النفر المفكر
الفرنسي دي بونالد في القرن الثامن عشر الميلادي والذي كان يرى أن اللغة ليست من
إنتاج الإرادة البشرية، حيث أن الناس لم يتفقوا فيما بينهم على إنشاء وخلق لغة
فكانت اللغة.
الإنسان من وجهة نظر المفكر الفرنسي دي بونالد لا يقدر على
خلق شئ ما لم يكن لديه فكرة صريحة عن هذا الشئ، ولكي يُوجد فكرة صريحة، لابد أن
يستطيع الإنسان التعبير عن هذه الفكرة باستخدام اللغة. إذًا وجود اللغة لابد أن
يكون سابق وجود الفكرة كما، وهذا يثبت أن اللغة لا يمكن أن تكون من عمل الإنسان
نفسه، ولابد أن تكون من الإلهام والوحي الإلهي.
فكرة أن اللغة لابد أن تكون سابقة الفكرة سنجدها عند جلال
الدين السيوطي في كتابه المزهر، حيث يقول لو أن اللغة اصطلاحية كان لابد من وجود
اصطلاح آخر يمكن القياس عليه، وهذا الفرضيات تؤيد بشدة عملية توقيف اللغة على
الوحي الإلهي.
الدليل القرآني، والذي تمسك به البعض واستدلوا به على توقيف
اللغة على الوحي الإلهي، الآية الكريمة (وعلم آدم الأسماء كلها).
يقول ابن جني (إن الله سبحانه وتعالى علم آدم أسماء جميع المخلوقات
بجميع اللغات مثل اللغة العربية والعبرية والفارسية والسريانية وهكذا فكان آدم
يتكلم بها هو وبنيه، ولما تفرق بنوه في الأرض اتخذ كل منهم لغة خاصة به، فأصبحت
تلك اللغة سائدة، واندثرت تبعًا لذلك اللغات الاُخرى).
ذهب آخرون إلى أن (علم آدم الأسماء) أي أن الله علمه أسماء
النجوم، والبعض يقول إنه علمه أسماء الملائكة، وآخرون يرون أنه علمه أسماء الله
الحسنى، وذهب بعضهم إلى أن الله علم آدم أسماء ذريته.
من أشهر الاعتراضات على هذه النظرية:
الاعتراض الأول: وجود التضاد ينفي أن هذه اللغة من عند
الله، ومثال ذلك اللون والذي يدل على الأبيض والأسود.
الاعتراض الثاني: يقول دوسوسير (ما ينفى كون اللغة من عند
الله هو أن اللغة عاجزة جذريًا عن الدفاع عن نفسها ضد العوامل التي تنقل من لحظة
إلى أخرى، العلاقة بين الدال والمدلول، وهذه إحدى اعتباطيات العلامة).
الاعتراض الثالث: لو تعلم آدم كل الأسماء لكان تعلم أسماء
لا يعرفها مثل الطائرة والحاسوب.
بعد استعراض هذه المقدمة البسيطة عن نظريات اللغة، سوف أضع
في السطور التالية تصوري الخاص عن النظرية التوقيفية، التي يقوم عليها المنهج
المستخدم في كتبي؛ ومن ثم الرد على
الاعتراضات الموجهة للنظرية، مع إضافة بعض النقاط التي أعتقد بأهميتها إلى النظرية
التوقيفية.
أرى أن النظرية التوقيفية هي أكثر النظريات قبولًا لتفسير
نشأة اللغة، وأن الاعتراض الأول والثاني على هذه النظرية يزولان بشكل نهائي إذا
اعتبرنا أن القرآن الكريم هو أصل اللغة، وأن المسميات فيه مسميات حقيقية، وأن كل
مسمى يصف حالة معينة من حيث خصائصها وصفاتها.
قد يكون الاعتراض الأول والثانى له وجاهته في اللغات
الاُخرى أو حتى في اللغة العربية التي تختلط فيها المسميات الحقيقية مع المسميات
غير الحقيقية والتي هي من إنتاج البشر. اعتماد القرآن الكريم كمرجع أساسي للغة،
وليس لسان المتحدثين القدامى، سوف يضبط هذه اللغة ويصحح التسميات، ولن يبرز التضاد
في المعنى الواحد؛ حيث أن الكلمة القرآنية تصف حالة محددة وليست اسم جنس. التضاد
هو نتيجة طبيعية لتجسيد الكلمة بينما نرى أن الكلمة حالة عامة لا يمكن فهم مدلولها
إلا من خلال فهم خصائص وصفات الكلمة ذاته والتي هي نتيجة طبيعية لترتيب معين
للحروف والأصوات.
الاعتباطية في العلامة هي نتيجة طبيعية لتحريف الكلمة لدى
البشر فأصبحت الكلمة أو اللفظ لا يدل على معناه. قد يسود معنى فرعي للكلمة ويختفي
المعنى الأساسي لها، مما يجعل الكلمة غير دالة بذاتها، وهذا الاعتراض سوف يزول
تمامًا عند اعتبار القرآن المصدر الرئيسي لفهم اللغة والمرجع الأول لفهم حالة
اللفظ.
الاعتراض الثالث هو خلط واضح بين مفهوم لفظ علم ولفظ عرف،
الاعتراض قائم على أن الله عرف آدم، أي أنه عرض عليه جميع الأشياء ثم بدأ في
تعريفه بها، فيما يشبه عملية الحفظ وترديد مسميات. العقل في هذه الحالة يصبح ذاكرة
تخزين فقط لا يقوم بأي عمليات عقلية. إلا أن مدلول كلمة (عَلَّم) التي جاءت في
الآية الكريمة على غير ذلك.
الفهم المتآني للتعبير القرآني ( علم آدم الأسماء كلها) هو
الكنز الثمين الذي دفعنا إلى النظرية التوقيفية وفهم الاعتراضات والرد عليها بشكل
بسيط.
علم آدم الأسماء
علم آدم الأسماء تعني أن الله أعطى لآدم القدرة على التسمية
وليس معناه أن الله عرف آدم تسمية الموجودات.
لفظ العلم ذاته من خلال القرآن نجد أنه لفظ من خصائصه وصفاته استخدام قدرات
عقلية راقية من المشاهدة والتحليل والاستنتاج ومعالجة المعلومات التي لديه. بعد
هذه المعالجة تأتي مرحلة استخدام الدلالات الصوتية في التعبير عن الفكرة أو عن
المسمى أيا كان.
العلم الذي وهبه الله لآدم يشتمل على استخدام الدلالات
الصوتية بشكل سليم للتعبير عن الفكرة. هذا
العلم هو الفارق الأساسي بين مفهوم البشر وبين مفهوم الإنسان (مذكور بالتفصيل في
فصل التطور الجزء الثالث). مفهوم العلم هو القدرة على الاستنباط والفهم، وهو ميزة
البشر، والتي احتاجت لإعداد طويل بحيث استطاع الإنسان التفوق على كل المخلوقات بما
فيهم الملائكة في القدرة على التسمية.
كل نظريات التطور تقف حائرة أمام نشأة اللغة، ولا يُعرف كيف
نشأت اللغة عند الإنسان، ولا توجد أدلة علمية كافية ترجح نظرية معينة. ويبدو هذا
التحول أو هذا التطور واضحًا شديد الوضوح عندما قال الله: (إني جاعل في الأرض خليفة)،
وما تلا ذلك من نفخ الروح، وهي العملية الإلهية التي جعلت الإنسان ينتقل لمرحلة
البشر، ويكون قادرًا على التعامل مع المعطيات المتاحة، ومن ثم استطاع استخدام
الدلالات الصوتية حيث كل صوت له تردد معين يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحالة فيزيائية
محددة.
مكنت هذه الطفرة الإنسان من التعبير عن أفكاره، وبالتالي
تحويل مسار حياته بالكامل، بل و وظيفته، وأصبح قادرًا على تحمل التكليف
والمسئولية. لا يمكن فهم هذا التحول بدون
فهم نظرية التطور، وميكانيكية عملها، والدلالات الصريحة على التطور في كتاب الله
(الجزء الثالث: كتاب تلك الأسباب).
استطاع آدم عليه السلام التعبير عن جميع المسميات المعروضة
أمامه بشكل عبقري، وبناء على هذا العلم كانت لديه قدرة على تسمية أي شئ يقع تحت
يديه، فهو لم يسمِ الطائرة، ولو أنها كانت معروضة عليه لما تردد لحظة في تسميتها،
وهذا ما يفيد أن الله سبحانه وتعالى علمه الأسماء، أي القدرة على التسمية باستخدام
الدلالات الصوتية المعينة، أو ما يمكن أن نسميه نظرية التسمية أو ميكانيكية
التسمية.
يقول ابن جني ما الحكمة من تعلم آدم جميع اللغات حيث أن
وظيفة اللغة الأساسية هي التواصل، ويتحقق هذا التواصل عن طريق لغة واحدة.
كما يبدو من كتاب الله أن آدم لم يتعلم كل اللغات بل تعلم
كيفية التسمية باستخدام الدلالات الصوتية. وأصل هذه الدلالات الصوتية هو ما جاء في
القرآن الكريم، وقد تكون الحروف المقطعة في بدايات السور القرآنية هي إحدى
المفاتيح الرئيسية لفهم هذه الدلالات الصوتية، وكيفية عملها وارتباطها بالقوانين
الكونية.
بناءً على النظرية التوقيفية التي ننتهجها في كتاب (تلك
الأسباب)، فإن التسميات في كتاب الله تسميات حقيقية تمامًا، قد تتوافق مع مفهوم
الناس كثيرًا، وتختلف أحيانًا عما يفهمون بسبب عوامل الزمن. سوف يظل الاختلاف
قائمًا بين ما يمكن إثباته عن طريق النظرية التوقيفية وبين ما يفهمه الناس من خلال
نظرية الاصطلاح، لن يحل هذا الجدل إلا الغوص وفهم النظرية بشكل صحيح دون اجتزاء.
لا شك أن النظرية التوقيفية بشكلها الحالي تعاني قصورًا في
بعض النقاط، إلا أن إضافة بعض التعديلات قد يسمح بفهمها فهمًا شاملًا.
كما ذكرنا أن عِلم الأسماء الذي أعطاه الله لآدم هو علم
القدرة على التسمية، وهو علم متكامل بحيث يشمل القدرة على فهم خصائص وصفات طبيعة
الأشياء، ومن ثم التعبير عن هذه الأشياء باستخدام دلالات صوتية معبرة. هذه القدرة
هي من النفخة الروحية الأولى التي أعطاها الله لآدم حيث الوعي والإدراك، ثم انتقل
بعد ذلك من خلال آدم لكل البشر سواء بالوراثة أو بالتعليم.
)كيف
انتقلت اللغة من آدم بالوراثة وكيف انتقلت بالتعليم تجدونه بالتفصيل في الجزء
الثالث عن التطور من خلال الجزء الخاص بخلق الإنسان(.
في البداية استطاع الإنسان البشري استخدام الدلالات الصوتية
بشكل عبقرى للتعبير عن المسميات، ووصفها وصفًا صحيحًا وحقيقيًا، طالما أن هذه
المسميات تقع في نطاق معرفته، ويملك معطيات عنها بشكل واضح. ودائما ما كانت
التسمية أو القدرة على التسمية تتم عن طريق قانون وسلطان صارم من ضمن التقدير
الحكيم والتصميم البديع للخالق.
هذا القانون هو الذي أودعه الله في البشر، ولو جاز لنا
التعبير لقلنا أنه البرنامج الإلهي الذي حصل عليه الإنسان مع تطور قدراته، وخصوصًا
تطور الوعي والإدراك لديه. مع التطور الإنساني وتشعب المجتمعات بدأت حاجة
المجتمعات ووجهات النظر في التباين، فظهرت المسميات المختلفة، فأصبح للمسمى الواحد
عدة أسماء حسب رؤية كل مجتمع لهذا المسمى. بعض من هذه المسميات لا تتبع القانون
الأصلي الضابط لعملية التسمية، ولذلك عبر عنها ربنا في أكثر من موضع في كتاب الله
أن هناك أسماء سماها الناس هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، حيث السلطان هو
القانون المنظم لعملية التسمية:
(قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن
رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا
أَنتُمْ وآباؤكم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي
مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ)(سورة الأعراف، آية 71).
(مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ
أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآباؤكم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن
سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ
إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَعْلَمُونَ)(سورة يوسف، آية 40).
(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا
أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ
الْهُدَى)(سورة النجم، آية 23).
جميع هذه الآيات تشير بكل دقة إلى أن التسمية لها قانون
وسلطان وأن البشر انحرفوا عن ذلك وتخلوا، أو تناسوا، أو لم ينتبهوا لهذا القانون
والسلطان فجاءت تسمياتهم بدون سلطان، أي غير معبرة عن الشئ تعبيرا حقيقيًا.
التسمية تعني هنا وصف الشئ، وإسم الشئ يعني وصفه وسمته.
مجرد أن نعتقد أن اسم الشيء هو علامة هذا الشئ دون دلالة حقيقية، فهنا نكون قد
خرجنا من المفهوم القرآني لمعنى الاسم وأصبح الاسم بالفعل اعتباطي الدلالة.
هذا عجز واضح وهذا العجز يمكن قبوله على تسميات البشر لكن
لا يمكن أبدا قبوله على تسميات الله في القرآن.
يجب أن ينتبه الناس لذلك لأن بقولهم، التسميات في القرآن
تسميات كما سماها الناس القدماء، جعلوا كلمات الله خليط بين مسميات حقيقية ومسميات
اعتباطية وهو قول عظيم ننزه كلمات الله عنه.
هذا الخلط بين المسميات الحقيقية التي تتبع القانون الإلهي
وبين مسميات الناس التي لا تتبع هذا القانون هو سبب كل الارتباك والتشويش في فهم
كتاب الله.
اللغة الحالية التي بين أيدينا تنطبق عليها كلتا النظريتين:
النظرية التوقيفية، وهي تلك التي تختص بجميع الألفاظ الواردة في كتاب الله، وهي
تسميات حقيقية من النبع الأول. أما نظرية الاصطلاح وهي التي تختص بالمسميات التي
تعارف عليها الناس وهذه المسميات يحتمل فيها أن
تكون تسميات حقيقية، وربما تكون تسميات غير حقيقية.
هذا التوافق بين التوقيف والاصطلاح ليس جديد؛ فقد حاول
أفلاطون التوفيق بين النظريتين التي تقول بالتوقيف والاصطلاح، حيث القول إن الله
وضع في الإنسان القدرة على التسمية ثم تركه يسمي كيف يشاء. وهذا بالضبط ما ذهبنا
إليه من أن الله وضع في الإنسان القدرة على التسمية ثم انطلق الإنسان يسمي
الأشياء، وبسبب عوامل الزمن والتداخلات المختلفة جاءت بعض التسميات موافقة تمامًا
لحقيقة المسميات، ولكن في بعض المواقف الأخرى اختلف الاسم عن حقيقة المسمى، أو أنه
كان وصفًا ظاهريًا، كما سوف نرى في الأمثلة التي يحتويها هذا الكتاب.
من هنا علينا وضع الحدود الفاصلة بين التسميات القرآنية
وبين التسميات البشرية وعدم التعجل بالخلط بينهم مما يساهم في ضياع صفة اللفظ
القرآني.
عندما عجزت بعض العقول عن فهم دلالات بعض الكلمات قالوا إن
هذه الكلمات على سبيل المجاز أو يقصد بها شيئ أخر. لماذا لم يتطرق الناس لفهم
حقيقة اللفظ ولماذا لم يبحثوا تلك الكلمات في إتجاه الحقيقة بدلا من اتجاه
المجاز. المجاز في حد ذاته هو قصور في
الوصف الحقيقي ويلجأ الإنسان إلى التعبير المجازي بسبب عامل ما يمنعه من التعبير
الحقيقي المباشر، وهذا الفرض لا يجوز على كلمات الله. لذلك من الأفضل قبل القول
على كلمات الله أن فيها المجاز التريث قليلا وفهم ماذا يعني ذلك حتى لا نساهم في
ضلال الآخرين.
لا شك أن نقص المعارف والعوز
المعلوماتي هو السبب الرئيسي في عدم القدرة على فهم الكلمة بشكل سليم، فيحاول
الإنسان تخيلها أو تصورها بشكل ما. من الأمثلة الواضحة على هذا التصور الذهني
الخالص كلمة الطور والتي فسرها المفسر قديما
على أنها اسم جبل. عند تحليل الكلمة تبين أن خلف هذه الكلمة تاريخ طويل من
المعلومات وجبال من المعرفة، لذلك جاءت هذه الكلمة كعنوان للجزء الثالث من سلسلة
تلك الأسباب والتي تحكي تطور الإنسان وتطور الحياة على الأرض.
الحل الأمثل هو افتراض أن كل كلمات القرآن حقيقة ثم إذا
استعصت كلمة فلا داعي تأويلها بالمجاز ولكن علينا التحلي بالصبر في بحثها ودفع
الاحتمالات حولها بدلًا من الجزم بالمجاز في كتاب الله وهو خلاف الحقيقة. أعلم
جيدًا أم القول بالمجاز في القرآن الكريم هو قول راسخ ولكن بشئ من التريث سوف
نكتشف أنه قول خطير على كلمات الله والدفع به غير محمود العواقب.
القول بالمجاز أعطى الفرصة لكل متقول على كتاب الله أن يقول
ما يريد، ولما لا والكلمات تحمل معاني متفرقة. العودة إلى فرضية أن كلمات الله
كلمات حقيقية هي السبيل الوحيد إلى لجم التقول على كتاب الله. نعم فرض أن كلمات
القرآن كلها حقيقية فرضية ليست سهلة فهناك كم رهيب من الكلمات لا يمكن فهمه أو
حمله على الحقيقة والأفضل القول بالمجاز حتى نتجنب كثير من الإشكاليات.
القول بأن كلمات الله كلها حقيقة ليست فرضية خيالية وإنما
هي فرضية من داخل كتاب الله.
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن
فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(سورة الأنعام : آية
73).
القرآن هو قول الله وقول الله هو الحق بمعنى الحقيقة
المطلقة فلا ينبغي أن نعتقد أن قوله أو كلماته لا تحمل الحقيقة وإنما مجازية.
لا أدري لماذا لم يقف أهل اللغة على هذه الآية و ينطلقوا
منها للاقرار بان كلمات الله حقيقية وتحمل الحقيقية المطلقة ويجب التعامل معها من
هذا المنطلق.
(مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُل مِّن قَلبَینِ
فِی جَوفِهِۦ وَمَا جَعَلَ أَزوَ جَكُمُ
ٱلَّــِٔی تُظَـهِرُونَ مِنهُنَّ أُمَّهَـتِكُم وَمَا جَعَلَ أَدعِیَاءَكُم أَبنَاءَكُم
ذَ لِكُم
قَولُكُم بِأَفوَ هِكُم
وَٱللَّهُ یَقُولُ ٱلحَقَّ وَهُوَ یَهدِی ٱلسَّبِیلَ)(سورة الأحزاب : آية 4).
قوله الحق فهل هناك مجال للقول أنه قوله ليس الحق أو أنه
مجاز وهل هناك عذر في اعتبار قول الله في كتابه غير الحقيقة المطلقة. هل بالفعل
ندرك ذلك وندرك أن قوله الحق يعني أن كل كلمة تحمل الحقيقة المطلقة و ندرك أبعاد
هذه الفرضية التي تفتح أبواب المعرفة على مصراعيها أمام البشرية.
عندما يجد الباحث مخطوطة قديمة يعتبر نفسه محظوظ للغاية
لانه سوف يستخرج معلومات غاية في الروعة من هذه المخطوطة القديمة. ما بالكم بكتاب
الخالق بل أعظم مخطوطة لأن معها ضمان إن ما فيها حقيقي بل الحقيقة المطلقة.
هناك دليل أخر شديد الوضوح وهو لفظ الذكر كما بيناه في
الكتاب الرابع قولا ثقيلا وهو الأشياء المحفوظة بذاتها، وقلنا أن هذه الصفة صفة
الحقائق الثابتة. عندما يصف ربنا كلامه وآياته بأنها الذكر فهذا يعني أنها الحقائق
المطلقة الثابتة ويجب الإنطلاق منها لفهم ما سواها.
وصف قول الله وكلمات الله وآيات الله أنها الحق جاء في أكثر
من موضع ولا يجب التحول عنها بسهولة مما يسبب ضياع كلمة الله بين الناس.
(وَیُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلحَقَّ بِكَلِمَـتِهِۦ
وَلَو كَرِهَ ٱلمُجرِمُونَ)(سورة يونس: آية 82).
(فَإِن كُنتَ فِی شَكّ مِّمَّا أَنزَلنَا إِلَیكَ
فَسـَٔلِ ٱلَّذِینَ یَقرَءُونَ ٱلكِتَـبَ مِن قَبلِكَ لَقَد جَاءَكَ ٱلحَقُّ مِن
رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلمُمتَرِینَ)(سورة يونس: آية 94).
(قُل یَـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ قَد جَاءَكُمُ ٱلحَقُّ
مِن رَّبِّكُم فَمَنِ ٱهتَدَى فَإِنَّمَا یَهتَدِی لِنَفسِهِۦ
وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیهَا وَمَا أَنَا۠
عَلَیكُم بِوَكِیل)(سورة يونس: آية 108).
(أَفَمَن كَانَ عَلَى بَیِّنَة مِّن رَّبِّهِۦ
وَیَتلُوهُ شَاهِد مِّنهُ وَمِن قَبلِهِۦ
كِتَـبُ مُوسَى إِمَاما وَرَحمَةً أُولَـىِٕكَ یُؤمِنُونَ بِهِۦ
وَمَن یَكفُر بِهِۦ
مِنَ ٱلأَحزَابِ فَٱلنَّارُ مَوعِدُهُۥ
فَلَا تَكُ فِی مِریَة مِّنهُ إِنَّهُ ٱلحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكثَرَ
ٱلنَّاسِ لَا یُؤمِنُونَ)(سورة هود : آية 17).
(وَكُلّا نَّقُصُّ عَلَیكَ مِن أَنبَاءِ
ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ
فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِی هَـذِهِ ٱلحَقُّ وَمَوعِظَة وَذِكرَى لِلمُؤمِنِینَ)(سورة
هود: آية 120).
لا نطلب إلا أن نقف قليلا ونتفكر في ما يقوله الله بعيدا عن
التحيز فهو يخاطبنا نحن ويطلب منا تدبر هذا الخطاب.
نحاول في هذه السلسلة تفنيد الكلمات وتحليلها قدر استطاعتنا
وقد استخرجنا بالفعل كم ليس هين من المعلومات وفهم الكلمات وكل ما نحتاجه هو مزيد
من الوقت ومزيد من الباحثين وعدم التعجل.
التضاد في اللغة
النقطة المثير للأهتمام هي وجود التضاد في الكلمات مما ينفي
كون اللغة هبة إلهية. عند بحث كثير من الكلمات وجدنا أن التضاد ما هو إلا ظاهرة غير صحيحة ولكن
بمزيد من التدقيق وجدنا أن اللفظ يحمل حالة لها خصائص وصفات معينة ولكن الناس
فهموا اللفظ بطريقة خلقت التضاد فيه وهو برئ من هذا الخلط. من أشهر الألفاظ التي
يظهر فيها هذا التضاد هو لفظ العبد إذ يقول المعجم أن عبد تحمل معنيين متضادين
عند تحليل كلمة عبد في الجزء الثالث من الكتاب وجدنا أن
المعنى شئ مختلف تمامًا وهو أن لفظ عبد يعني حالة من التكليف أو المسئولية. عند
تطبيق مفهوم العبد على ألفاظ القرآن ظهر مفهوم الحرية لأول مرة من خلال مفهوم
العبد ذاته واستطعنا فهم مجموعة كبيرة جدًا من الآيات على رأسها آية القصاص التي
شملت مفهوم الحر والعبد والأنثى.
ما نود قوله أيضًا هنا أن التضاد في اللفظ هو تصور بشري
ويجب التدقيق والبحث لاستخلاص معنى اللفظ بعيدًا عن التضاد حتى تتكشف حقيقة اللفظ
وفهم الحالة التي يصفها اللفظ.
هناك أمر لابد من الإشارة إليه وهو أن كثير من الألفاظ يذكر
المعجم أنها لها عدد كبير من الأصول أو الجذور وهذا الفرض أيضًا من وجهة نظري لا
يدعم كون اللغة هبة إلهية.
لقد كان لنا لقاء مع كثير من هذه الجذور خلال صفحات السلسلة
واستطعنا دمج كل الجذور وبيان أن اللفظ له أصل واحد قد يتفرع منه بعض الاصول
الأخرى.
المثال الواضح على ذلك جاء في الكتاب الرابع قولاً ثقيلاً
عندما قمنا بتحليل لفظ الأمر حيث جاء في قاموس اللغة أن لفظ أمر له خمسة أصول. مع تحليل اللفظ وجدنا أن كل
هذه الأصول متفرعة من أصل واحد وليست خمسة كما جاءت في المعجم.
المسألة ليست بهذه البساطة ولا يمكن أن تُحمل باستخفاف.
فرضية أن اللغة إنتاج بشري فرضية سوف تضيع
المفاهيم التي تحملها كلمات الله وتجعل من كلمات الله نص تاريخيًا. كذلك فرضية أن اللغة هبة إلهية لا
بد أن تحل الإشكاليات وإلا نكون كمن يكتب
على الماء.
ما نفعله في سلسلة تلك الأسباب هو محاولة لفت نظر الناس إلى
هذه البديهية ونسوق الدليل خلف الدليل ونقول للناس أن الأمر بسيط ولكن يحتاج منهج
علمي يقوم على أسس منضبطة في فهم اللفظ القرآني.
لا يمكن أن ينزل الله كتاب ويسميه قرآنًا ثم يترك الناس
تقول فيه ما تشاء كما تشاء. هذا الكتاب لابد له أن يحمل مفاتيح فهمه ولابد لكلماته
أن تكون حقيقية. نظرية الاصطلاح التي يتبناها القوم اليوم ويفسرون من خلالها اللفظ
القرآني كمن يستخدم وثائق مزورة لكشف وفهم وثائق أصيلة. قد تمنح الوثائق المزورة بعض المعرفة مصادفة
ولكن تبقى المعرفة الكاملة مطموسة ما لم يستطع الباحثين فك رموز الوثائق الأصيلة
عن طريق مقياس أصيل.
نقطة أخيرة أود الإشارة إليها وهي أن كثير من كلمات القرآن
اختلف حولها الناس بل إن الرسول ذاته لم
يفسر أغلبها وأشهر هذه التعبيرات الحروف المقطعة مما يثبت بما لا يدع مجالا للشك
أن القرآن جاء من خارج الإطار المعرفي للرسول، والنبي متفاعل مع النص بقدر ما يحمل
من معارف دون تحيز أو هوى. هذه الفرضية متوافقة تمامًا مع أن القرآن يحمل الحقائق
المطلقة حيث كل جيل يرى وجه من الحقيقة أو يحاول الوصول للحقيقة. الرسول ليس
نهاية البشرية وليس مطلوبًا منه فهم وتبيان
جميع الحقائق المطلقة التي يحملها اللفظ وليس له ذلك، لأن هذه الرسالة رسالة
للإنسانية كافة وليس لشخص واحد؛ حيث كل جيل يغترف منها بقدر ما يتاح له من معارف.
قبل أن ندخل لفهم
معنى عرب والأعراب سوف اضع النقاط الرئيسية للمنهج المستخدم في تحليل اللفظ
القرآني كما استنتجته من خلال دراسة نظريات نشأة اللغة ومن خلال فهم بعض الآيات
القرآنية التي تشير إلى اللغة عن الإنسان واللفظ والكلمة في كتاب الله. أيضا يحتوى
المنهج بعض النقاط التي تم استنتاجها من تحليل بعض الآيات المتكررة والتي تصف مشهد
واحد من زوايا متعددة.
ملخص المنهج:
اللغة هبة إلهية من الله اصطفى آدم وأعطاه القدرة على
التسمية ووصف المسميات بكل دقة (النظرية التوقيفية) والتي انتقلت منه إلى البشرية.
ألفاظ القرآن جميعها ألفاظ حقيقية ليس فيها مجاز ولها خاصية
الإفصاح عن نفسها وتحمل مفاتيح فهمها.
الألفاظ خارج القرآن يحتمل فيها أن تكون حقيقية تصف المسمى بكل دقة؛ أو غير حقيقة ليس لها
دلالة أو اعتباطية.
جذر الكلمة يمثل حالة عامة لها صفات وخصائص محددة ولكل كلمة
جذر واحد فقط، ولا يمكن وصف الجذر بكلمة واحدة بل بتعبير كامل.
الحالة العامة للجذر لها مدلولان: مدلول مادي يمكن تجسيده
ومدلول لا مادي يحمل نفس الصفات والخصائص.
المدلول الصوتي للحروف يمثل حالات فيزيائية.
وجود أكثر من أصل للجذر الواحد يتنافى مع كون اللغة هبة
إلهية لذا يجب دراسة الأصول المتعددة
وإرجاعها إلى أصل واحد.
لا يمكن للجذر الواحد أن يحمل أصلان متضادان لأن ذلك يتنافى مع كون اللغة هبة إلهية. والصحيح أن للجذر أصل واحد يمثل
حالة عامة تفرع منها التضاد. ( المعاجم بها أصول متضادة وهذا يتنافى مع النظرية التوقيفية).
لا يمكن فهم اللفظ إلا من خلال السياق وفي إطار الحالة التي
يصفها بكل دقة دون التدخل بالزيادة أو النقص.
يصرف اللفظ إلى الحالة الأشهر التي يمثلها ما لم توجد قرينة تصرفه إلى حالة
أخرى بدليل قوي، وليس مجرد رؤية شخصية.
آيات القرآن جاءت من خارج الإطار المعرفي للنبي صلوات ربي
عليه فتفاعل معها واستخرج الأحكام فجاءت أقواله وأفعاله بخلاف القرآن من داخل
إطاره المعرفي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق