الفصل الثالث عشر: فقدر عليه رزقه
لا شك أن فكرة أن الله يبتليك ليسمع صوت دعائك وأنه يريد أن
يرفع قدرك فكرة جذابة، ولكن للأسف فكرة تزيد الطين بله. فبدلًا من أن يتحرك
المسكين ليصحح الأخطاء ويبحث عن سر تعاسته ويصوب الخطأ أو حتى يعترف بدوره أو حتى
دور المجتمع الذي يحيط به في هذه التعاسة، تراه يركن إلى اعتقاده الزائف بأنه ذو
مكانة مرموقة عند الله وينسى قول الله تعالى.
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ
أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ)(سورة النحل : آية 97).
ندخل مباشرة إلى آيتين في كتاب الله في سورة الفجر، تتحدثان
عن الإنسان العادي غير المبادر بالخير وفي نفس الوقت غير المعتدي بالمعنى
الشامل. سوف نتعرف من خلال هاتين
الآيتين، هل حقًا يصيب الله الإنسان بالمصائب كاختبار، دون أن يكون الإنسان مستحق
لهذه المصائب؟ ولماذا فكرة الحياد ( السلبي) فكرة ليست في صالح الإنسان بل وسبب
مباشر لعدم توفيقه في حياته بل وسبب في إهانته في هذه الحياة.
الابتلاء الذي فسره المفسرون أنه نوع من الاختبار هو في
الحقيقة ليس كذلك. البلاء هو وقوع الشيء وتحققه. الله يبتلي الإنسان بشئ أي يقع
ويتحقق هذا الشئ للإنسان بغض النظر عن كونه خير أو شر. الابتلاء في القرآن الكريم
مقترن بالتقديرات ولا يأتي من خارجها، بمعنى أن الله يبتلي الإنسان وفقا للقوانين
والتقديرات وحتميات الوجود التي وضعها الله لتسيير هذا الكون. الطالب المجتهد
يبتلي بالنجاح والطالب المستهتر يبتلى بالفشل، هكذا يتم تصميم الاختبارات. هناك
أيضا رأفة ورحمة ولكن ليست مشاعًا لكل أحد وإنما هي للمحسنين كما سوف نرى.
سوف أكتفي بآيتين في سورة الفجر تعطينا لمحات عن الإبتلاء
وكيف أن الله سبحانه وتعالى لا يبتلي أحد بشئ بشكل مجاني ولكنها أفعال الإنسان
رُدت إليه.
(فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ
رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15) وَأَمَّا إِذَا
مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16))(سورة الفجر، آيات 15،16).
الابتلاء المذكور في الآيات نوعين لا ثالث لهما:
النوع الأول:
ابتلاء الفضل والزيادة، أي
وقوع الفضل والزيادة في حق الإنسان، أي أن الله يمن على الإنسان فوق ما يستحق،
وعندها يقول الإنسان ربي أكرمن.
النوع الثاني:
ابتلاء الاستحقاق، بمعنى أن
الإنسان يأخذ ما يستحق فقط بالعدل دون إحسان أو فضل وهذا هو قول الله (فقدر عليه
رزقه).
قدر عليه رزقه أي جعل رزقه ( ما يحصل عليه) خاضع للأقدار
والقوانين ليس فيها فضل ولا إحسان ولا زيادة، وعندها سوف يقول الإنسان ربي أهانن.
ليس هناك أي إشارة إلى إن الله يصيب الإنسان بشئ بشكل مجاني دون أن يكون مستحق
لذلك.
الآيات تتحدث عن الإنسان العادي وليس المبادر بالخير أو
المجرم أو المعتدي بدليل الآيات التالية التي تتحدث عن السبب الرئيسي لحرمان
الإنسان من الفضل والإحسان الإلهي.
(كَلَّا
بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(18)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا(19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20))(سورة الفجر، آيات 17-20).
الآية الأولى: تتحدث عن السبب الأول الذي يمكن أن ينزع عن
الإنسان فضل الله وهو عدم إكرام اليتيم. لاحظ هنا لم يقل قهر اليتيم أو ظلم اليتيم
فالذين يأكلون أموال اليتامى أو يتسببون في قهرهم أو ظلمهم بأي حال من الأحوال
توعدهم الله بالويل والعذاب وهم خارج نطاق
هذه الآية. الآية تتحدث عن فضل الإنسان وإحسانه إلى اليتيم والذي هو فوق العدل.
ربما يتخذ الإنسان موقفًا متعادلًا من اليتيم لا يظلمه ولكن
في نفس الوقت لا يكرمه. هذا الموقف المحايد كفيل أن تلفظك العناية الإلهية وأن
تحرم الفضل والزيادة.
الآية الثانية تتحدث عن الحض على طعام المسكين، والحض يعني
التشجيع والتحفيز على طعام المسكين. مرة اخرى لم تتناول الآية سارق طعام المسكين
أو مانع طعام المسكين إنما تتناول الشخص السلبي الذي لا يبالي بغيره ومكتفي بنفسه.
لقد تم شرح معنى الحض على طعام المسكين في سورة الماعون وكيف أنها تمثل الحد
الأدنى للخير في الجزء الأول من الكتاب.
الآية الثالثة: تتحدث عن أكل التراث، عندما فسر المفسر
القديم التراث قال أن أصلها الوراث وقلبت الواو تاء للتخفيف.
الأمر ليس كذلك، أكل الميراث ( الوراث) موجب للعذاب وليس
لحجب نعمة الله فقط ولكن التراث هنا هو الأشياء المبعثرة التي ليس لها مالك محدد،
أو أملاك أو أشياء مشاع لكل الناس فيأتي أكل التراث هذا يكنز هذه الأشياء بطمع
ونهم بل ويمنع عنها غيره.
جامع التراث أو الأشياء التي تقع في ملك الجميع أو ليس لها
صاحب محدد والاستئثار بها يظن أنه لم يفعل خطأ. الحقيقة كما تشير الآيات أن هذه
النفوس الأنانية هي في الحقيقة منعت الفضل عن الناس واستأثرت به. جزاء هذه النفوس
هو جنس ما صنعت فسوف يمنع عنهم الله فضله ونعمته. فإن أدركتهم مصيبة سوف تجرى
عليهم الأقدار دون رحمة ودون فضل من الله.
الآية الرابعة: تتحدث عن حب المال، وحب المال ( كل ما يملكه
الإنسان) في ذاته ليس فيه شئ إن كان باعتدال، لكن التطرف في حب المال والذي يدفع
الإنسان لمنع الخير رغبة في زيادة الجمع، أو الصمت في مواقف الباطل تجنبًا لفقد
المال، أو تماهيًا مع مصالحه، هو المقصود بالذم في هذه الآية.
هؤلاء السلبيون ما إن يتعرضوا لموقف عصيب إلا وسوف تجري
عليهم الأقدار بكل عدل ولن يظلموا ولكن في نفس الوقت ليس لهم نصيب في فضل الله
ونعمائه التي تمنع المصائب كما تخبرنا الآية.
رغم أن كثير من العقلانيين ينفون التداخلات الإلهية
المباشرة وأن كل شئ يسير وفق قوانين محددة إلا أن هذه الآيات تعطينا بعدا آخر
وتشير إلى العناية الإلهية وعين الله التى ترعى الطيبين ولكنها رعاية مشروطة،
وكأنها مقدرة ومحددة سلفًا لأولئك المبادرون الذين يكرمون اليتيم ويحضون على طعام
المسكين، القانعون غير الطامعين ولا المانعين فضل الله والذين ينفقون مما يحبون.
إن كنت ترغب في أن ترعاك عناية الله فكف عن الحيادية السلبية وبادر. إن لم تبادر وفضلت البقاء في المنطقة المريحة فلن يظلمك الله شيئا ولكن سوف تفقد هذه العناية الكافية بإصلاح كل عيب وستر كل نقص. للتعرف على نظرية الشر وسورة الفلق أنظر الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق