الفصل السادس: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ
مِنْ خِلالِهِ
ومضات ضوئية سريعة وخاطفة تضئ الكون، ثم صوت متقطع مخيف مع
زخات المطر في ليلة شتوية، مشهد سيطر على فكر الإنسان منذ بدء الخليقة وحتى يومنا
هذا. التفكير في تلك الظواهر العجيبة مثل: البرق، والرعد والصواعق كان دومًا
محفزًا للعقول، وملهمًا للخيال. ظواهر مثل البرق والرعد صداها وتأثيرها واضح بشكل
كبير في العلوم والفنون على حد سواء. عندما لم يستطع الإنسان فهم هذه الظواهر على
حقيقتها، نسج حولها الأساطير، حتى أننا نجد أن كل ثقافة وكل حضارة من الحضارات
لديها روايتها الخاصة حول تلك الظواهر البديعة.
لا شك أن هذه الظواهر مثلت رعبًا وفزعًا للإنسان الأول الذي
صعقته أصواتها واحترقت مزارعه بفعل تأثيرها، ولكن في نفس الوقت كانت تلك المظاهر
مصدر وحي وإلهام للإنسان ذي الحس المرهف لما تحمله من روعة وجمال لا يقاوم.
ما بين الأساطير وبين الفن، تلمس العلم طريقه محاولًا
اكتشاف سر هذه الظواهر والتي يقف الإنسان أمامها عاجزًا، لا يقدر على شئ. هذا
العجز الظاهر في البداية هو ما جعل هذه الظواهر أرضًا خصبة ذاخرة بالأساطير
والخزعبلات.
نظرت الحضارات القديمة لمثل هذه الظواهر المحيرة على أنها
أحداث مقدسة مرتبطة بالآلهة، فهذه الأحداث خارجة عن سيطرتهم، ولابد من إيجاد تفسير
مريح لها، وإلا أصبح الأمر كابوسًا يؤرق وينغص عليهم حياتهم. هل هناك شئ أكثر راحة
من أن تعزي الأمر للآلهة أو القوى الخفية تجنبًا للجهل والغموض.
لجأ علماء القرن السابع الميلادي للأساطير الإغريقية
لمحاولة تفسير تلك الظواهر المثيرة، فكانت إحدى تلك الأساطير تتحدث عن البرق كأحد
أسلحة الإله زيوس رب الأرباب لدى الإغريق والذي يسكن الجبال.
بحسب الأسطورة، الإله زيوس كان يستخدم تلك الظواهر ليرهب
بها أعدائه، أو أداة انتقام إذا تطلب الأمر انتقامًا. في ذلك الوقت سادت تلك
المعتقدات وتنوعت أشكالها. ففي أوروبا على سبيل المثال، آمن الناس بمثل هذه
الأساطير، وكان يسمون الإله المسئول عن هذه الظاهرة صانع البرق. بعض الثقافات كان
لديها اعتقاد سائد بوجود ثور بين السحب يجر عربة ويمسك مطرقة كلما ضرب بها حدث
البرق، أما الصوت المصاحب للضوء فهو نتيجة رفرفة طائر بجناحيه بين السحب.
إذا كان الإله زيوس عند الإغريق هو المسئول عن تلك الظواهر،
فالرومان أيضًا لديهم الإله جوبيتر المسئول الأول والمباشر عن تلك الظواهر. كذلك
الاسكندنافيين كان لديهم الإله طور هو مسئول صوت الرعد؛ فعندما يضرب بمطرقته وهو
راكب على عربته التي يجرها الجديان أثناء تجوله وسط المجرات، تقرقع السماء وتزمجر
بذلك الصوت المخيف.
الشعوب الأصلية في أستراليا أطلقت على هذا الإله اسم
ناماركون. قبائل يوروبا في إفريقيا أطلقت عليه الإله شانغون. الجرمانيون القدماء
دعوه دونار. في شرق أسيا اسمه لي جونج، وعند الصينيين كامي، واليابانيين سوسانو،
أما شعب المايا في أمريكا الجنوبية فأطلقوا عليه اسم تشاك. لا تكاد حضارة أو ثقافة
تخلو من تأثير هذه الظواهر في تراثها.
لم يكن البدو في الجزيرة العربية بدعًا من الأمم، فقد
اهتموا كثيرًا بهذه الظواهر، وحاولوا تتبعها لما لها من تأثير مباشر على حياتهم،
وارتباطها الوثيق بالمطر الذي يعد مصدر حياة لهم، حتى أنه يقال أن بني عدي، إحدى
القبائل في شبه الجزيرة العربية، قد عبدوا البرق واتخذوه إلهًا، وعلى ذلك سُموا
بارقًا نسبة لمعبودهم البرق.
عندما نزل القرآن، كان هناك ذكر مباشر للبرق، والرعد
والصواعق، وقد حاول المفسر تفسير تلك الآيات الكريمة، ولكن بسبب قلة المعارف
وقتها، عرفت الأساطير طريقها للتفاسير في محاولة لفهم هذه الظواهر. سوف نرى بعد
قليل صدى هذه الأساطير في محاولات تفسير الرعد والبرق، عندما تحول الإله الذي يضرب السحاب بالمطرقة
إلى ملك يمسك بسوط يضرب به أو يسوق به السحاب، ويصبح البرق وميض هذا السوط، والرعد
صوت هذا السوط. سوف نحاول في هذا الفصل اكتشاف ما هو البرق والرعد والصواعق، وما هو
الودق اعتمادًا على مدلول الكلمة في كتاب الله ومدى مطابقتها للحقائق العلمية.
الخواطر القرآنية
سوف نكون معنيين في الأسطر القادمة بتحليل ألفاظ البرق،
والصواعق، والرعد والودق؛ تلك الكلمات التي ذُكرت في كتاب الله، ونحاول مقارنة
الكلمات بعضها ببعض، وكذلك مقارنتها بالمعلومات العلمية والجذور اللغوية للوصول
للحقيقة قدر المستطاع.
أولاً: البرق
لقد ذُكر لفظ البرق في كتاب الله في خمسة مواضع، وهي
كالتالي:
الآية الأولى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ
ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)(سورة البقرة، آية
19)
حملت بعض التفاسير رائحة الأساطير عندما حاولت تفسير وتأويل
البرق، عندما ادعت أن البرق سوطًا يضرب به الملك، فيكون منه النور الذي نراه. وهي
تأويلات لا تصح مطلقًا، وليس لها علاقة بالمنطق، فضلًا عن أن يكون لها وجه من
الاستدلال في كتاب الله. التفسير المختصر والذي من وجهة نظري مقبول ومحاولة معقولة
تقارب المنطق هو تفسير السعدي، ومن نحا نحوه حين فسر الآية الكريمة كما يلي:
(ثم قال تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّمَاءِ) يعني أو مثلهم كصيب، أي كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب، أي
ينزل بكثرة، (فِيهِ ظُلُمَاتٌ) ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمات المطر،
(وَرَعْدٌ) وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، (وَبَرْقٌ) وهو الضوء اللامع المشاهد
مع السحاب) انتهى التفسير.
السعدي في تفسيره لم يحاول إقحام تفسيرات بشرية أو خيالات شخصية،
ولكنه بقدر كبير وقف على الوصف الإلهي والمعرفة البسيطة المتاحة وقتها، بقوله إن
البرق هو الضوء والرعد هو الصوت. أما تفسير الصيب فالصحيح عندي أن الصيب هو كما
ذكره ربنا سبحانه وتعالى، فيه الظلمات والرعد والبرق، وهذا الوصف ينطبق على السحاب
المتراكم الممطر، وليس على المطر نفسه، فيكون الصيب هو السحاب الكثيف المتراكم
والذي يسبب ظاهرتي البرق والرعد.
أما تفسير الرعد بالصوت الذي نسمع فأعتقد أنه على غير
الحقيقة، وسوف نتحدث عنه بالتفصيل في وقته. أما البرق وهو الضوء اللامع فمن وجهة
نظري أنه تفسير منطقي وصحيح.
الآية الثانية:
(يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ
كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ
وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(سورة البقرة، آية 20).
لسنا في حاجة هنا لسرد أقوال المفسرين حول ماهية البرق،
ولكن أستعين فقط بالرأي الراجح في تفسير البرق وهو الضوء اللامع، وهذه الآية
الكريمة تؤكد ذلك، حيث وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه كلما أضاء مشوا فيه.
البرق هو الظاهرة الضوئية
التي نراها جميعًا عندما تتكون السحب وتتراكم بعضها فوق بعض، وهو نتيجة لبعض
العمليات والتفاعلات، كما سوف يتضح بعد قليل. باقي الآيات الكريمة التي ذُكر فيها
البرق تقرر وتثبت مدلول الكلمة على أنه الظاهرة الضوئية فلا حاجة لسرد المزيد.
الآية الثالثة:
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا
وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)(سورة الرعد، آية 12).
الآية الرابعة:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا
ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ
مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ
فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ
يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)(سورة النور، آية 43).
الآية الخامسة: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(سورة الروم،
آية 24).
ثانيًا: ما المقصود بالصواعق أو الصاعقة؟
ذُكر لفظ صعق أو أحد مشتقاته في كتاب الله في عشرة مواضع،
حيث جاء اللفظ بصيغة صعق أو يصعقون في ثلاثة مواضع، ولفظ صاعقة في خمسة مواضع،
ولفظ الصواعق في موضعين.
بترتيل الآيات الكريمة نجد أن الصاعقة هو الصوت الشديد، أو
بتعبير علمي هي موجات صوتية ذات تردد مرتفع للغاية، وبالتالي فإن الظاهرة الصوتية
المصاحبة للظاهرة الضوئية هي الصواعق، وليست رعدًا كما يفهمها الناس. حتى نزيل
الشك باليقين سوف نحاول تأويل الآيات التالية وبيان المقصود.
الآية الأولى: (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي
وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا
تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا
أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(سورة
الأعراف، آية 143).
مجمل التفسيرات حول (وخر موسى صعقًا) لم تخرج عن كون موسى
(عليه السلام) سقط مغشيًا عليه أو ميتًا.
من خلال الوقوف على الآية الكريمة ومن خلال فهم لفظ الصعق،
نجد أن نبي الله موسى (عليه السلام) سقط مصعوقًا، كما أخبر كتاب الله. لكي يسقط
نبي الله موسى مصعوقًا، لابد أن يكون هناك سبب ما هو ما جعله يسقط هكذا. الصعق هو
نتيجة صاعقة، والصاعقة هي الصوت الشديد. يبدو أن عملية الصعق التي أصابت نبي الله
موسى كانت نتيجة صوت مرتفع أو صوت ذو تردد عالٍ، مما يدل أو يشير إلى أن عملية دك
الجبل تمت عن طريق تردد صوتي مرتفع للغاية.
إنه إشارة لأولي الألباب من ضمن إشارات القرآن الكريم ترشد
وتدل الإنسان إلى تأثير الموجات الصوتية
ذات التردد المرتفع للغاية، والتي يمكنها من تحطيم الصخور والأحجار، بل وطحنها
وتسويتها بالأرض. فهم هذه الآية الكريمة يفتح الباب أمام استخدام تقنية التردد
الصوتي في دك أو تحطيم الصخور على مستوى كبير، وقد يستفيد منها الإنسان في تطبيقات
لا حصر لها. مرة أخرى، اللفظ القرآني يهدي، ويرشد ويقود الإنسان لمعارف جديدة. كل
ما نحتاجه فهم منهجي للفظ القرآني، وربط الآيات اللفظية بالآيات الكونية. وهذه هي
الخطوة التي سوف تقودنا لاكتشاف القانون الواحد الذي يربط كل مكونات الكون والذي
يدل على الوحدانية.
الصعق لا شك هو الظاهرة الصوتية، ومن خلال الآيات القادمة
سوف نقدم الدلائل القاطعة والتي لا يمكن
إهمالها أو التغاضي عنها.
الآية الثانية:
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ)(سورة الزمر، آية 68).
من خلال تحليل المشهد نجد أن عملية النفخ التي حدثت قد صدر
عنها صوت، وعلى ذلك لابد أن المسمى أو الشئ الذي يطلق عليه الصور هو شئ متعلق
بالصوت، بل هو مصدر هذا الصوت. لو تتبعنا النفخ والصعق في كتاب الله لأدركنا طبيعة
الصوت الذي صعق بسببه من في السماوات والأرض، بل ويمكن تحديد تردده. وصف ربنا
الصوت هذا بالصرير من خلال سورة الحاقة.
لعل علماء الفيزياء من خلال فهم هذا الصرير بالتعاون مع علماء اللغة لفهم
مدلول الحروف يتمكنوا من تحديد تردد هذا الصرير ومدى، قوته وبالتالي يصبح الباب
مفتوحًا أمام الاستفادة من هذه الظاهرة.
في سورة الحاقة، يخبرنا ربنا عن الصاعقة التي أهلكت قوم عاد
وعن طبيعتها، ووصفها فقال ريح صرصر عاتية، (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ
صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)(سورة الحاقة، آية 6). ها نحن نستجلي معنى الصعق، بل والأكثر
من ذلك طبيعة الصوت الذي وصفه ربنا بالصرير.
الآية الثالثة:
(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ
الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ)(سورة الطور، آية 45).
الآية الكريمة تتحدث عن الصعق يوم القيامة، وبالطبع عن طريق
النفخ في الصور كما ورد في الآية السابقة.
لفظ صعق ورد بصيغة صاعقة في خمسة مواضع:
الآية الأولى:
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ
لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ
تَنظُرُونَ)(سورة البقرة، آية 5).
الآية الثانية:
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ
فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ
ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا
عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا)(سورة النساء، آية 153).
الآية الثالثة:
(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ
صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)(سورة فصلت، آية 13).
في الآية الثالثة نجد أن مدلول لفظ الصاعقة جاء أكثر
وضوحًا، فصاعقة عاد هي كما ذكرها ربنا ريحًا صرصرًا عاتية، وصاعقة ثمود وصفها ربنا
بالطاغية أي التي تطغى على كل شئ، وهنا يتضح أنها صوت ذو تردد مرتفع لدرجة كبيرة
جدًا.
الآية الرابعة: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ
الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(سورة فصلت، آية 17).
وصفت الصاعقة بعذاب الهون في هذه الآية الكريمة، وكأن ربنا
يرسل الإشارات لكي يتدبر أهل القرآن. الموجات الصوتية تبدو هينة في حقيقتها، ومع
ذلك لها تأثير مدمر. والآية التالية تؤيد ذلك حيث أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، أي
أن تأثير الصاعقة كان ذا بعدٍ زمني، و استمر لوقت حتى أهلكهم.
الآية الخامسة:
(فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ)(سورة الذاريات، آية 44).
يجب أن نأخذ في الاعتبار البعد الزمني للصواعق ومدى شدتها
وتأثيرها، فهناك إشارات في كتاب الله على ذلك. فموسى (عليه السلام) خر صعقًا، ولم
يهلك من تأثير الصاعقة التي دك الله بها الجبل. أما قوم عاد وثمود فقد هلكوا من
تأثير صاعقة أخرى، ولكن يبدو أنها كانت مختلفة في البعد الزمني الذي استغرقته.
صيغة الصواعق وردت في كتاب الله في موضعين:
الآية الأولى:
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ
ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)(سورة البقرة، آية
19).
محاولة تفسير الرعد بالصوت المسموع هي تسمية بشرية خالصة لم
تصب أبدًا كبد الحقيقة.
المشهد القادم الذي تعرضه الآية الكريمة لا يحتاج لتأويل،
أو حتى تفسير أو اجتهاد. فمعنى الصواعق هنا ظاهر كالشمس في كبد السماء، وهو الصوت
الشديد. يقول ربنا: (يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ
الصَّوَاعِقِ)، نعم إنه صوت، وإلا ما الذي يجعل الإنسان يضع أصابعه في آذانه؟
هل يضعون أصابعهم في أذانهم من تأثير الضوء مثلًا أو من
تأثير الكهرباء؟ بالطبع هو تأثير صوتي مزعج جعلهم مرعوبين من الأذى المحتمل الذي
قد يصيب آذانهم، فجعلوا أصابعهم في آذانهم حماية لها.
الصواعق هي بالظاهرة الصوتية المصاحبة لتراكم السحب ونزول
الأمطار، فإذا كانت الظاهرة الضوئية تسمى بالبرق، فإن الظاهرة الصوتية تسمى
بالصواعق، وليس الرعد كما هو مشاع.
الآية الثانية:
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ
وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن
يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)(سورة الرعد،
آية 13).
في هذه الآية الكريمة أيضًا يخبرنا ربنا عن الصواعق
المرتبطة بالسحب والأمطار. ومن الواضح أن الرعد والصواعق شيئان مختلفان. وقد يجادل
أحدهم ويقول إن الصواعق هي صوت الرعد، فنسأله وما هو الرعد؟ وإذا كانت الصواعق
والرعد تحمل نفس المعنى، فأعد قراءة الآية الكريمة لترى أن هذا تكلف ولا يصح،
فالرعد شئ والصواعق التي هي الصوت شئ آخر.
علميًا تحدث الصواعق أو الصوت الذي نسمعه ونطلق عليه خطأً
الرعد نتيجة التفريغ الكهربي، حيث تقوم الموجات الكهربية أو الشحنات الكهربية
المنطلقة بتسخين الهواء في مسارها مما يؤدي إلى توسيع مسار تلك الشحنة بسرعة
فائقة، والتي تسبب الصوت المتقطع الذي نسمعه. يحدث هذا الصوت في جميع أنحاء الأرض
بمعدل 50 -100 تفريغ في الثانية الواحدة.
الموجات الصوتية هذه تتم على ارتفاعات مختلفة، لذلك يبدو الصوت الناتج
متقطعًا بسبب أن كل موجة تستغرق زمنًا مختلفًا للوصول للإنسان.
ثالثًا: الرعد
إذا كانت الصواعق هي الظواهر الصوتية المصاحبة للبرق، فماذا
يكون الرعد إذن؟ ذُكر الرعد في كتاب الله في موضعين، وهما:
الآية الأولى:
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ
ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)(سورة البقرة، آية
19).
سبق تأويل كلمة صيب وكلمة البرق في هذه الآية الكريمة،
ويبقى أن نعرف ما هو الرعد. بسبب ورود كلمة رعد مرتين فقط في كتاب الله سوف نحاول
الاستعانة بقاموس اللغة وجذور الكلمات لمعرفة أصل كلمة رعد.
في مقاييس اللغة لابن فارس، جذر كلمة رعد وهو الراء والعين
والدال، له أصل واحد وهو حركة واضطراب، ثم إن ابن فارس قال في تفسير رعد أيضًا أنه
ملك يسوق السحاب، ومن الواضح أن ابن فارس اعتمد التفسيرات في وصف الرعد. ما يهمنا
هو جذر الكلمة وهو الحركة والاضطراب، فأي شئ يمكن أن ينطبق عليه وصف الحركة
والاضطراب من مكونات السحب أو الظواهر المصاحبة لتراكم السحب؟
تم تعريف ما هو البرق وما هي الصواعق، لم يتبقَ سوى الرعد.
من الواضح أن الرعد متعلق بالنشاط الكهربي أو التفريغ الكهربي الناتج من تراكم
الشحنات الكهربية في طرفي السحابة، وهذا التفريغ الكهربي هو السبب الرئيس لحدوث
الظاهرة الضوئية (البرق) والظاهرة الصوتية (الصواعق). من الملاحظ أن الرعد يسبق
البرق في الآية الكريمة، مع أنه علميًا لو كان الرعد هو الصوت، فإن البرق هو ما
يسبق الرعد، وليس العكس. كتاب الله ذكر الرعد سابقًا البرق، فهل تعتقد أن الترتيب
جاء عبثيًا؟ إن كان الكاتب العبقري يختار مفرداته بعناية فائقة، ويراعي الفروق في المعنى،
ويقصد الترتيب والتقديم والتأخير، فما بالكم برب العالمين وهو العليم الحكيم.
لم يتطرق أحد لوصف الرعد بالشحنات الكهربية أو أشار لعلاقة
الرعد بالتفريغ الكهربي في كتب التفسير، بسبب قلة المعارف وقتها. ولكن إذا نظرنا
إلى وصف السحاب المتراكم ووصف الظاهرة الضوئية بالبرق ثم الظاهرة الصوتية
بالصواعق، فيتبقى لدينا ظاهرة الشحنات الكهربية، وفى المقابل مسمى الرعد وجذر
الكلمة يصف المسمى حيث الحركة والاضطراب، وهو طبيعة الشحنات الكهربية.
انظر لترتيب الكلمات في الآية الكريمة ظلمات - رعد - برق،
وهو ترتيب ليس عبثيًا كما ذكرنا في ظاهرة السحب المطيرة، حيث يتم التكوين في
البداية عن طريق تراكم السحب وتكاثفها، والتي لو حاولنا وصفها فما هي إلا ظلمات
فوق ظلمات بسبب هذا التراكم المستمر، ثم عملية التفريغ الكهربي (الرعد)، ثم الضوء
(البرق)، ثم بعد فترة تأتي الصواعق، وهي الأصوات التي يشفق الناس منها ويجعلون
أصابعهم في آذانهم.
الآية الثانية:
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ
وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن
يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)(سورة الرعد،
آية 13).
هذه الآية الكريمة تؤكد وتضيف دليلًا جديدًا على أن الرعد
هو التفريغ الكهربي من خلال فهم لفظ يسبح الدال على الحركة الدائمة، حيث يعطي
وصفًا تفصيليًا لهذا الرعد المستمر بالحركة، مما ينطبق تمامًا مع صفات وخصائص
الشحنات الكهربية. إعادة النظر في مفهوم كلمة صواعق الدارجة، والتي نستخدمها لوصف
الشحنات الكهربية، وكذلك كلمة رعد والتي نستخدمها بمعنى الصوت، أعتقد أصبح ضرورة،
وخصوصًا بعد هذا الكم من الأدلة والبراهين.
إعادة ترتيب هذه المسميات كما وصفها الله سبحانه وتعالى،
حيث الرعد هو الشحنات الكهربية، والصواعق هي الظواهر الصوتية، دليل لا يمكن دحضه
على أن التسميات في كتاب الله مسميات حقيقية، وأن اللغة العربية بألفاظها القرآنية
هي لغة إلهية وليست لغة بشرية.فيجب الانتباه وعدم هيمنة لسان أهل الجزيرة على
ألفاظ القرآن الكريم بحجة أنهم أكثر الناس دراية ومعرفة باللغة.
لسان العرب قادر على وصف الظواهر التي يراها حوله ويلمسها
ويعرف كنهها، أما المسميات، وفي القلب منها الظواهر الكونية، لا يستطيع لسان العرب
مهما أوتي من قوة وفصاحة وصفها هذا الوصف الدقيق الملم بتفاصيلها كما وصفها القرآن
الكريم بكل دقة وإحكام.
رابعًا: الودق
ما هو الودق الذي ذُكر في كتاب الله في موضعين اثنين يتعلق
بالسحب والظواهر المصاحبة لها؟
قبل أن نلقي الضوء على كلمة الودق ونحاول تأويلها، سوف
نستعرض بعض وجهات النظر العلمية حول كيفية تكون البرق والرعد، حتى نستطيع معرفة ما
المقصود بالودق.
حتى يومنا هذا تعتبر عملية الشحن الكهربي التي تحدث داخل
السحب مسألة حولها خلاف ولا يوجد دليل قطعي على كيفية حدوثها يمكنك اعتماده وتبنيه
بصورة موثقة. لعل كثرة العوامل الداخلة والمؤثرة في عملية التكهرب مثل حركة الهواء
الجوي والظواهر الذرية هي ما جعلت البت في منشأ الظواهر المصاحبة للسحب أمرًا صعباً
للغاية.
عام 1752م استنتج الأمريكي بنجامين فرانكلين أن السحب
المسئولة عن تفجير الشحنة الكهربية غالبًا تكون في حالة سالبة، وفي بعض الأحيان
تكون السحب في حالة موجبة. وقد ظهر مؤخرًا أن هذا الارتباك ما هو إلا نتاج مشاهدات
مغلوطة. قد كان من المعروف أن التفريغ الكهربي للسحب (المشهور باسم الصواعق) يحدث
بسبب انتقال الشحنة سواء السالبة أو الموجبة من منطقة إلى منطقة اُخرى، سواء كانت
هذه المنطقة داخل السحابة نفسها أو الانتقال كان بين السحابة والأرض.
لكي يحدث انتقال الشحنات، لابد أن تحمل السحابة شحنات
كهربية، بالإضافة إلى وجود فرق في الجهد (فرق الجهد في السحابة هو انفصال في
الشحنات، حيث تنفصل الشحنات السالبة عن الشحنات الموجبة، ونتيجة لهذا الانفصال
ينشأ ما يسمى فرق الجهد بينهما). والآن دعونا نتساءل كيف يحدث انفصال الشحنات هذا؟
الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة أبدًا، ولعل المشاهدات
والفرضيات لم تعطي وصفًا دقيقًا لهذه العملية. وهناك ثلاث فرضيات أو نظريات تفسر
انفصال الشحنات، ومن ثم حدوث التفريغ الكهربي.
أولًا: فرضية الحث الكهرو سكوني أو الحث الالكتروستاتيكي Electrostatic Induction
يتم الشحن بحسب هذه النظرية عن طريق عملية غير معروفة
تمامًا، حيث عملية انفصال الشحنات تتطلب سحب قطرات الماء إلى أعلى داخل السحابة،
حيث درجات الحرارة المنخفضة جدًا، فيحدث التبريد لهذه القطرات لدرجة تصل إلى 20
درجة مئوية تحت الصفر، وتختلط ببلورات الثلج الموجودة في الأعلى وتكون ما يسمى
بالبَرَد. التصادمات التي تحدث نتيجة لهذا السحب والتبريد وتغيير الحالة ينتج عنها
شحنات موجبة تنتقل إلى بلورات الثلج في الأعلى وشحنات سالبة تنتقل إلى حبيبات
البرد في الأسفل. وكنتيجة طبيعية لوجود
الشحنات الموجبة في الأعلى والشحنات السالبة في الأسفل يتولد فرق في الجهد.
من المفترض أن عملية الفصل هذه مستمرة بسبب الحركة المستمرة داخل السحب إلى أن يصل
تراكم هذه الشحنات إلى نقطة تكون كافية لحدوث التفريغ الكهربي، أو ما يسمى
«بالصاعقة الكهربية».
ثانيًا: نظرية الاستقطاب الميكانيكي Polarization Mechanism
هذه النظرية أيضًا لا تزال موضع دراسة وبحث، وهي تعتمد على
مبدأين أساسيين هما:
المبدأ الأول: تساقط قطرات المطر والثلج، والتي تصبح
مستقطبة بفعل حقل الأرض الكهرومغناطيسي الطبيعي.
المبدأ الثاني: بلورات الثلج في السحب يتم شحنها بواسطة
الاحتكاك مع الحبيبات أو البلورات و القطرات المتساقطة بواسطة الحث الكتروستاتيكى،
وهذا بدوره يؤدي لتراكم الشحنات داخل السحب كما في الحالة الأولى.
ثالثًا: نظرية هروب الانكسار
نظرية الفيزيائي الروسي ألكسندر كورفيتش، بمعهد لينيدوف عام
1992م، حيث تقوم فرضية كورفيتش على أن عملية فصل الشحنات تتم عن طريق الأشعة الكونية،
والتي تقوم بتأيين الذرات ومن ثم انفصال الشحنات، وبالتالي يحدث فرق الجهد والذي
يسبب التفريغ الكهربي.
إن كانت كل نظرية تملك وجهة نظر مغايرة لتفسير منشأ
الشحنات، إلا أن هذا لا يلغي أبدًا تراكم الشحنات وحدوث التفريغ الكهربي، ومن ثم
الظاهرة الضوئية والظاهرة الصوتية. الجدير بالذكر أن فرق الجهد في حالة تراكم
السحب قد يصل إلى مئات الملايين من الفولتات، وتنتقل شحنة مقدارها 10 كولوم على
الأقل إلى الأرض (نقل شحنة تساوي كولوم واحد في ثانية واحدة تحتاج لتيار شدته 1
أمبير)، وعلى ذلك فإن التفريغ الكهربي الحادث من تراكم السحب يساوي تيارًا كهربيًا
أكبر بكثير من 10 أمبير، لأن التفريغ الكهربي يحدث في جزء صغير من الثانية.
قدر العلماء متوسط الطاقة التي يمكن أن تنتجها السحب
المتراكمة في الدقيقة بمئات الميجاوات، وهي في الحقيقة تمثل قدرة محطة نووية من
الحجم الصغير.
بعد استعراض تلك المعلومات البسيطة عن كيفية نشوء البرق
والصواعق، وكيف أن البداية كانت مع التفريغ الكهربي والذي أطلقنا عليه الرعد، وأن
هذا التفريغ الكهربي ما كان له أن يحدث إلا بتراكم الشحنات الكهربية ووصولها للحد
الذي يكفي لعملية التفريغ الكهربي. يصبح الآن الطريق ممهدًا لمعرفة ما هو الودق.
إذا كانت الفرضيات والنظريات إلى الآن لم تجزم بشيء مؤكد،
فإننا لا يمكن اعتماد أي منها في تفسير الودق وما هو الودق. غير أن سياق الآيات
وربطها بكيفية تَكون البرق والتفريغ الكهربي، توضح لنا أن الودق قد يكون المقصود
به هو الشحنة الكهربية نفسها، فإذا كان الرعد هو عملية التفريغ الكهربي للشحنات
الكهربية، فإن الودق قد يكون هو الشحنة الكهربية التي تراكمت وحدث لها تفريغ، ثم
أنتجت البرق والصواعق.
لا أستطيع حقيقة أن أجزم هل المقصود بكلمة الودق هو الشحنات
السالبة والتي تقترن بالإلكترونات، أم الموجبة والتي تقترن بالبروتونات، أم أنه
الشحنة الكهربية كمقدار ثابت. أعتقد كلمة مثل كلمة الودق تحتاج لتدقيق أكثر ودراسة
أعمق، فربما تكون مفتاحًا لفهم عملية شحن السحب، بل والأكثر من ذلك قد تكون
مفتاحًا لفهم الشحنات الكهربية نفسها وكنهها. بالعودة لكتاب الله، سنجد إشارة
بديعة عن الودق، وأقصد هنا كتاب الله، وليست تفسيرات المفسرين. لقد ورد لفظ الودق
في كتاب الله في موضعين:
الآية الأولى:
(اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ
كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن
يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(سورة الروم، آية 48).
الآية الثانية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي
سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ
يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن
بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا
بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)(سورة النور، آية 43).
يقول المفسر أن الودق هو الماء فهل بالفعل الودق هو الماء.
الماء المتساقط من السحب ذكره الله تعالى باسم المطر في
حالة الضر، وباسم الغيث في حالة النفع، ودلت الآيات الكريمة عليه بفعل ينزل في
حالة السحاب، وليس يخرج. كلمة خلال في كتاب الله التي جاءت مع الودق توحي بتخلل
الأشياء، فعندما يخبرنا ربنا أن الودق يخرج من خلاله، فكأنه يصف تلك الأشياء التي
تخرج من السحب المتراكمة وليست تنزل، وكلمة من خِلالِه ليست تعني من وسطه كما فسر
البعض، ولكن تعني تخرج من بين التراكمات والتجمعات جميعها.
أما قول الله سبحانه وتعالى (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء
مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ).
أما البَرَد فقد شرحناه في معرض حديثنا عن النظريات التي
حاولت تفسير نشوء البرق والتفريغ الكهربي، وجدير بالذكر أن نلقي الضوء إلى أن
ارتفاع السحب في بعض الأحيان يصل الى عشرة كيلومترات أو أكثر، والبَرَد هو حبيبات
الثلج الناعمة المتراكمة في هذه السحب.
أما قول الله سبحانه وتعالى (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ
يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)، فقد جاء تفسيره على النحو التالي:
(وقوله (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ
بِالأبْصَارِ)، يقول: يكاد شدّة ضوء برق هذا السحاب يذهب بأبصار من لاقى بصره،
والسنا مقصور، وهو ضوء البرق.
عن ابن عباس قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ)، قال: ضوء
برقه. عن قَتادة، في قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ)، يقول: لمعان البرق يذهب
بالأبصار. قال ابن زيد، في قوله: (يَكَادُ
سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ)، قال: سناه ضوء يذهب بالأبصار)، انتهى
التفسير.
في تفسير السعدي، يعتقد أن الهاء في برقه عائدة على السحاب،
بمعنى يكاد برق السحاب «يكاد ضوء برق ذلك السحاب»، وقد جاءت معظم التفاسير بنفس
المعنى تقريبًا حيث البرق عائد على السحاب، ولكن أعتقد أن سنا برقه يعود على
الودق، فالمقصود هنا هو الودق أي أن سنا البرق هو ناتج من الودق.
وقبل أن أعطي استنتاجًا كاملًا حول هذه النقطة، أود أن
أُشير إلى تعبيرين في الآيتين الكريمتين وهما تعبير كسفا في الآية الأولى
(فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ
كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ)، وقد شرحنا الكسف في الفصل الخاص بكسوف الشمس، وبينا
أن المقصود هو قطع أو أجزاء مكثفة ومضغوطة، أما التعبير الثاني في الآية الثانية
وهو تعبير ركامًا (يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ
رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ)، والركام هو أيضًا الطبقات بعضها فوق بعض وهي قطع
متكاثفة من السحب.
من الواضح أن التراكم والتكاثف الذي يحدث للسحاب هو السبب
الرئيس لخروج الودق، وكما تشير المعلومات العلمية أن عملية التراكم هذه يتبعها
خروج شحنات كهربية والتي تتراكم في طرفي السحابة استعدادًا لعملية التفريغ
الكهربي. هكذا نكون قد اقتربنا كثيرًا من مفهوم ودلالة كلمة الودق، والتي أرجح أن
تكون الشحنة الكهربية.
بناء على المعلومات السابقة، يمكننا تصور وفهم آخر لعملية
نشوء الشحنات والتفريغ الكهربي يمكن صياغته ربما يكون صحيحًا وربما يحتاج لتعديل.
اعتمادًا على الآيتين التاليتين (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ
الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء
وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ
بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(سورة الروم: الآية
48).
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا
ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ
مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ
فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ
بِالْأَبْصَارِ)(سورة النور: الآية 43).
وكذلك عن طريق عقد مقارنة بين اللفظ القرآني وبين المعلومات
العلمية، فإننا نعتقد أن جزيئات بخار الماء المتصاعد تحمل على سطحها شحنات جزئية
بعضها سالب والآخر موجب، نتيجة استقطاب المجال الكهربي الطبيعي للأرض، أو قد تكون
بفعل الأشعة الكونية، وعندما يحدث التكاثف والتراكم لهذه السحب يحدث بالتالي تكاثف
لهذه الشحنات الجزئية سواء السالبة منها أو الموجبة.
في الوضع الطبيعي، توزيع الشحنات داخل السحب يساعد على أن
تبقى السحب في حالة منفردة غير متكاثفة، ولكن بسبب قوة تجاذب معينة، تؤدي هذه
القوة إلى تراكم قطع السحب المختلفة مما يسبب تنافر الشحنات الكهربية الموجودة في
السحب، ويؤدي ذلك بدوره إلى انفصال هذه الشحنات وتراكمها على طرفي السحابة، مع
استمرار تكاثف السحب يزداد تكاثف الشحنات، وبالتالي انفصالها وتميزها إلى شحنات
سالبة وشحنات موجبة حتى يصل فرق الجهد بين طرفي السحابة إلى قيمة مناسبة لحدوث
عملية التفريغ الكهربي. تبدأ عملية التفريغ الكهربي (الرعد) والذي يسبب الضوء
الساطع (البرق)، ونتيجة تسخين الهواء بفعل التفريغ الكهربي يصدر الصوت الذي نسمع (الصواعق).
مازال أمام هذا الفصل الكثير والكثير والذي أرشح له متخصصين
في علوم الفيزياء والظواهر المناخية بالتعاون من علماء اللغة لفهم كلمة الودق
ومدلولها. ربما الوقوف على مدلول كلمة الودق يفتح أمامنا طاقات معرفة عن الشحنات
الكهربية وطبيعتها وخصائصها وصفاتها لم تكتشف بعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق