الفصل الخامس: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا
كالاراو شيطان ممتلئ بالحقد والغل ضد الآلهة الخالدة خلودًا
أبديًا في أسطورة هندوسية قديمة، تدور حول تفسير ظاهرة كسوف الشمس. يحاول هذا
البائس كالاراو انتزاع الخلود ليصبح ندًا للآلهة، وليست هناك طريقة تمكنه من ذلك
سوى التحايل ومحاولة الحصول على إكسير الحياة بأي ثمن، والذي يهب هذه الإلهة الخلود
الأبدي. كان كالاراو يعلم موعد تناول الآلهة للإكسير السحري من خلال مأدبة خاصة
يعدها خدم الآلهة خصيصًا لهذا الغرض.
تنكر كالاراو في زي امرأة وكأنه من ضمن الخدم الذين يقدمون
إكسير الحياة للآلهة، وأثناء انشغال الآلهة، يتحين الشيطان كالاراو الفرصة لخطف
كأس من كؤوس أكاسير الحياة ويلقيه في جوفه بسرعة. ولكن لحظة الغابر يلمحه في نفس
اللحظة أحد الآلهة الذي كان يراقب الأمر ويتابعه منذ البداية. فيقوم الإله من فوره
بقطع رأس كالاراو مانعًا إياه من شرب الكأس والاستفادة من مفعوله، ولكن الإكسير
يكون قد وصل بالفعل إلى رأس كالاراو فيموت
الجسد ويبقى الرأس خالدًا بسبب هذه الرشفة.
بعد هذه الحادثة صار العداء مستحكمًا بين الآلهة، وخصوصًا
آلهة الشمس والقمر، وبين رأس كالاراو، منذ ذلك اليوم أصبحت مهمة الشيطان كالاراو،
أو بمعنى أدق رأس كالاراو، مطاردة الشمس والقمر ومحاولة ابتلاعهما. فإذا نجح رأس
ذلك الشيطان في محاولاته، حدث الكسوف أو الخسوف بحسب أيهما تم ابتلاعه الشمس أم
القمر. لحسن الحظ عندما يبتلع رأس كالاراو الشمس أو القمر وتظلم الدنيا، ما تلبث
أن تخرج الشمس أو يخرج القمر سريعًا من الناحية الأخرى من رأس كالاراو، فهو رأس
بدون جسد.
لقد كانت أسطورة الصينيين أكثر سلامًا من تلك الحرب الضروس
بين الشيطان وبين الآلهة في الأسطورة الهندوسية. كانت ظاهرة كسوف الشمس لدى
الصينيين تمثل علامة وإشارة على صحة الإمبراطور، وانعكس هذا الاهتمام على علم
الفلك نفسه، حيث تقدم هذا العلم وحساباته تقدما ملحوظاً. ولما لا يتقدم علم الفلك
وهو يتمحور حول حياة أهم شخص في البلاد وركنها الأساسي! وهل هناك حافز أكبر من
حياة وصحة الإمبراطور يمكن أن تكون حافزًا للشعوب للعمل والتقدم وإنتاج المزيد.
لقد انتشر التنجيم بفضل هذه الأسطورة انتشارًا لا مثيل له،
وكان من أهم وظائف المنجمين وقتها، هي محاولة التنبؤ بموعد الكسوف، وكان الفشل في
التوقع يعد كارثة يتعرض بسببها المنجم لعقاب قاسٍ يصل في بعض الأحيان إلى إعدامه
جزاءً وفاقًا.
في بعض الثقافات العربية، يُعتقد أن خروج المرأة الحامل في
وقت الكسوف قد يسبب تشوه الجنين، وبالطبع هذا الاعتقاد خاطئ بالمرة، بل إن
المبالغة في خطر كسوف الشمس وعدم خروج الناس من منازلهم خوفًا على أعينهم من الشمس
ينتابها كثير من المغالطات. فالشمس وقت ما يسمى بالكسوف لا تنتج أجسامًا أو أشعة
تفتك بالعيون، بل تأثيرها يكون أضعف بكثير منها في الأوقات العادية، ولكن كل ما في
الأمر أن مشهد الكسوف يغري الناس بالنظر إلى الشمس، وضعف الأشعة تغري الإنسان
بإطالة النظر وعدم الالتفات بعيدًا، فإذا أطال الإنسان النظر إلى الشمس تضررت
عيناه من آثار أشعة الشمس، بعكس الأيام العادية حيث قوة أشعة الشمس تجبر الناظر
إليها تحاشي النظر مباشرة بسبب قوتها وحدتها.
لا شك أن الكسوف الشمسي وخصوصًا الكسوف الكلي منه يعتبر
أمرًا مزعجًا لتلك المناطق التي تعتمد على الطاقة الشمسية بشكل كبير. يتوقع
العلماء فقدان ما يقارب 35000 ميجا وات من الطاقة الشمسية في حالة حدوث الكسوف
الكلي في مناطق الطاقة الشمسية بأوروبا.
تحدث ظاهرة الكسوف الشمسي بمعدل اثنين إلى خمس مرات في
العام. ويعود تاريخ أول تدوين للكسوف الشمسي بحسب وكالة ناسا إلى خمسة آلاف سنة،
بحسب نقوش منحوتة على ثلاثة أحجار في مقاطعة ميث الإيرلندية. ظاهرة طبيعية متعلقة
بحركة الأجرام السماوية وبنية النظام الشمسي الذي نعيش فيه، فهل لهذه الظاهرة صدىً
في كتاب الله، وهل تسمية الظاهرة بالكسوف تسمية صحيحة؟
لهذه الظاهرة حضور في كتاب الله، ولكن بسبب أن تسمية الكسوف
تسمية غير حقيقية لم يستطع الناس الاستدلال على الظاهرة في كتاب الله، حيث كتاب
الله يحمل الأسماء الحقيقية وليس التسميات البشرية وما يعتريها من أخطاء.
كسوف الشمس
لم تُذكر كلمة كسوف في كتاب الله ولو مرة واحدة، وإذا أردنا
أن نبحث عن جذر كلمة كسوف لنعرف مدى تطابق الكلمة مع الظاهرة سوف نجد أن جذر
الكلمة هو كسف، وهي الكاف والسين والفاء. وكما في قاموس اللغة لابن فارس، لهذا
الجذر أصل واحد وهو تَغيُر في حال الشيء إلى ما لا يحب، أو قطع شئ من شئ.
لو تتبعنا اللفظ في كتاب الله لنعرف معنى ومدلول اللفظ كما
أنزله ربنا سبحانه وتعالى سوف نجد بُعدًا آخرًا لكلمة كسف، والتي وردت في كتاب
الله بصيغة كِسفا.
ورد لفظ (كسفا) في كتاب الله في خمسة مواضع، منها أربعة
مواضع مرتبطة بأشياء تسقط من السماء، والخامسة وصف سحاب متراكم يخرج منه الودق
(انظر فصل: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ).
الآية الأولى:
(أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ
عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً)(سورة
الإسراء، آية 92).
الآية الثانية:
(فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ
السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(سورة الشعراء، آية 187).
الآية الثالثة:
(اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ
كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن
يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(سورة الروم، آية 48).
الآية الرابعة:
(أَفَلَمْ
يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء
وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ
كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ)(سورة
سبأ، آية 9).
الآية الخامسة:
(وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا
سَحَابٌ مَّرْكُومٌ)(سورة الطور، آية 44).
مدلول كلمة (كِسفا) كما جاءت في الآيات تعني قطعًا مكثفة،
أو أجزاءً ثقيلة، وهذا الثقل بالطبع ناتج عن كبر كثافة هذه القطع، وخصوصًا بمقارنة
اللفظ ومدلوله في الآية الأخيرة، إذا يرى الناس الكسف فيظنوا أنه سحاب مركوم أي
متراكم، فدل ذلك على أن كلمة كسف تصف أجزاءً ذات كثافة عالية مضغوطة. بناء على
ذلك، فإن الفعل كسف يعني جعل الشيء متراكمًا، أو مضغوطًا، أو مكبوتًا أو مكثفًا.
يتضح لنا من تفسير كلمة كسف بأنها ليس لها أدنى علاقة هنا بالظاهرة الشمسية والتي
تسمى الكسوف ولا تصف حقيقة الظاهرة.
كيف تمت تسمية الظاهرة بالكسوف؟
من وجهة نظري أن تسمية الظاهرة بالكسوف هي تسمية ظاهرية
بحتة، حيث عندما رأى الإنسان الظاهرة أول مرة، أعتقد أن حجب ضوء الشمس بسبب أمر ما
سبَبَ تكثيف، أو ضغط أو كبت هذه الأشعة، وبالتالي لم تعد تصل إلى الأرض، حسب
المعلومات المتاحة وقتها وعدم توافر معلومات عن كيفية حدوث الظاهرة، ولا الشكل
الهندسي للمدارات الفلكية، ولا بنية النظام الشمسي.
تعتبر تسمية الظاهرة بهذا الاسم تسمية عبقرية، إذ تصف ما
حدث لقرص الشمس بحسب الرؤية المتاحة بعيدًا عن الأساطير. في وقت كان يعتقد الناس
أن الشيطان التهم الشمس، أو أن الحيوانات اعتدت على قرص الشمس، نرى هذه التسمية
أقرب للمنطق والعقل بعيدًا عن الخرافات. رغم كل ما سبق، يعتبر لفظ الكسوف تسمية
بشرية ووصفًا بشريًا محدود المعارف، فأين نجد وصف الظاهرة في كتاب الله؟
قبل أن نتطرق لكتاب الله تعالى، لابد أن نلقي نظرة سريعة
على الظاهرة التي ندعوها بالكسوف وبعض المعلومات البسيطة من وجهة نظر العلم.
هذه الظاهرة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقمر والأرض، ومن
الطبيعي أن تحدث بالنهار، ومن آثارها انخفاض طاقة الشمس بشكل ملحوظ. إذا كان ما
يعرف بالكسوف كسوفًا كليًا، تتحول الدنيا إلى ما يشبه دخول الليل الخفيف. زمن
الظاهرة يعد قصير جدًا مقارنة بالظاهرة المعروفة لدينا بخسوف القمر، والتي أثبتنا
أن وصفها يتفق تمامًا مع لفظ اتساق وليس خسوف.
يحدث الكسوف عندما تكون كل من الشمس والقمر والأرض على
استقامة واحدة، بحيث يتوسط القمر الشمس والأرض، مما يتسبب في حجب ضوء الشمس عن
الأرض، فتبدو المنطقة المواجهة للقمر في تلك اللحظة تشبه لحظة دخول الليل.
الخواطر القرآنية
بعد استعراضنا لتلك المعلومات البسيطة والتي تصف الظاهرة،
يأتي دور الخواطر القرآنية، حيث وصف ربنا الظاهرة وصفًا بديعًا من خلال آيات كريمة
في سورة الشمس. ولعل تسمية السورة بالشمس لهو إشارة لنا بأن ها هنا توقفوا
وتدبروا، فثمة أسرار متعلقة بالشمس تحتاج لقراءة، ومن ثم محاولة معالجة المعرفة
لنحصل على علم من خلال قراءة آيات الله اللفظية.
(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1)وَالْقَمَرِ إِذَا
تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ
وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6))(سورة الشمس، الآيات 1-6).
الآية الأولى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ).
لا يمكن فهم هذه الآية الكريمة إلا من خلال فهم لفظ الضحى
وعلاقته بالشمس.
مدلول كلمة ضحى
جذر كلمة ضحى هو ضحو في قاموس اللغة لابن فارس هو بروز
الشيء وظهوره، ثم جعل ابن فارس يشرح كلمة ضحى معتمدًا على وقت الضحى وهو شروق
الشمس.
الصواب لدي، أن الضحى ليس وقتًا معينًا، وإنما تأثير لشئ
ما، أو حالة غير مستقرة، أو حالة انتقالية تفصل بين حالتين. ولكي نقف على المعنى
لابد لنا أن نستعرض ذكر كلمة الضحى ومشتقاتها في كتاب الله.
وردت كلمة ضحى في كتاب الله 4 مرات بصيغة ضحى، و3 مرات
منسوبة لما قبلها بلفظ ضحاها كما يلي:
الآية الأولى:
(أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن
يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(سورة الأعراف، آية 98).
ضحى هنا المقصود به هو وقت تأثير الشمس الضعيف، والذي
غالبًا ما يكون مناسبًا للعب، ولا يشترط أن يكون أول النهار، فمن الممكن أن يكون
في نهاية النهار أيضًا.
الآية الثانية:
(قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن
يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)(سورة طه، آية 59).
المقصود هنا الفترة قبل اشتداد الشمس أو بعد ذهاب حر الشمس،
حالة تأثير الشمس الضعيف والمناسب لاجتماع الناس.
الآية الثالثة:
(وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا
تَضْحَى)(سورة طه، آية 119).
الآية التي تسبق هذه الآية الكريمة قد تعطيني ملمحًا لمعنى
ضحى. في هذه الآية الكريمة.
(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا
تَعْرَى)(سورة طه، آية 118).
المقصود هنا كما أرى لا جوع في الجنة، والمخاطب هنا آدم
عليه السلام، حيث فاكهة كثيرة تمنع الجوع، ولباسهم فيها حرير يمنع العري، ولا ظمأ
حيث الماء المسكوب، ولا تضحى تعني لا تضعف أو يحدث لك خفوت وهذا الضعف نتيجة عدم
استقرار. تسمى حالة عدم الاستقرار بالحالة الانتقالية حيث تسبق الاستقرار دائما
وهذه الحالة متوافقة مع حالة الشمس قبل استقرارها في كبد السماء أو استقرارها في
المغيب.
الآية الرابعة:
(وَالضُّحَى)(سورة الضحى، آية 1).
كما عودنا القرآن الكريم أن أسماء السور لابد أنها تحمل
مفتاح من مفاتيح العلم والمعرفة، وتحمل في طياتها سرًا عظيمًا يحتاج لمجهود بحثي
معتبر للوقوف على معناها ودلالتها، فلا يمكن اختزال معنى الضحى في وقت بزوغ الشمس
وجعله مقصورًا على ذلك، وهناك سورة كاملة في كتاب الله تتحدث عن الضحى، يقسم الله
فيها بالضحى.
إذا عدنا لمفهوم الضحى الذي شرحناه في الأسطر السابقة حيث
أنه يصف حالة انتقالية غير مستقرة، والتي غالبًا ما تتميز هذه الحالة بعدم الثبات
والتأثير الضعيف يصبح بذلك المعنى أشمل وأوضح. عندما نحاول فهم الآية التالية في
سورة الضحى سيكون مفهوم الضحى كحالة انتقالية غير مستقرة هو الأقرب لمعنى الضحى.
الآية التالية سوف تزيد المعنى وضوحًا (وَاللَّيْلِ إِذَا
سَجَى)(سورة الضحى، آية 2).
لو نظرنا لمعنى سجى والتي تصف حالة الليل، سنجد أن الجذر
الثنائي وهو السين والجيم (سج) يعنى الاعتدال والاستواء، الجذر الثلاثي هو سجو
ومعناه السكون والإطباق. ولو حاولنا فهم سجى من وجهة نظر علمية، سنجد أنها تعني
الاستقرار والذي يشمل الاتزان، و الاستواء والاعتدال. بمقارنة لفظ الضحى وعلاقته
بعبارة سجى الليل، نجد أن كلمة ضحى تعنى تمامًا ظهور وبروز حالة غير مستقرة أو
فترة انتقالية يعقبها استقرار.
الآية التالية قد تكون فتحًا مبينًا، وقد تحمل إشارات علمية
بالغة الأهمية متعلقة ببناء السماء، وبداية تكوين الكون، وبالتالي السماوات.
الآية الخامسة: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ
ضُحَاهَا)(سورة النازعات، آية 29)
الآية الكريمة تتحدث عن السماء أو الفضاء في بداية التكوين
كما تدل الآيات الكريمة، وأغطش ليلها تعني اشتداد ظلامه، وهذا المعنى ثابت علميًا
حيث الظلام الدامس الذي يلف الكون. أما تعبير (أخرج ضحاها) فقد فهمه المفسرون على
عدة أوجه؛ فمنهم من قال إنها تعني أخرج ضوئها أو نورها، ومنهم من قال بل تعني
نهارها. يبدو لي أن ضحى السماء (حيث الضحى منسوب للسماء، وليس منسوبًا للشمس) هو
تحول بناء السماء من حالة عدم الاستقرار والاضطراب، والتي صاحبت بداية الخلق إلى
مرحلة الثبات، والاعتدال والاستقرار. الضحى هنا هو حالة عدم الاستقرار، أو الفترة
الانتقالية قبل استقرار بناء السماء. من المعروف أن الفترة الانتقالية تكون فترة
ضعيفة وغير مستقرة، فأخرج ضحاها تعنى أخرجها من حالة الاضطراب وعدم الاستقرار
(الحالة الانتقالية) إلى حالة الاستقرار والثبات.
الآية السادسة:
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)(سورة النازعات، آية 46).
كلمة ضحاها هنا عائدة على العشية وليست على الشمس، مما يدعم
ويؤكد أن الضحى ليس وقتًا خاصًا بالشمس، وإنما هو حالة تأثير معينة، وهنا تعني أول
الليل. وأعتقد المقصود هو الفترة التي تسبق الظلام الدامس ويكون الظلام فيها مثل
الغشاء الرقيق.
الآية السابعة:(
(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) (سورة الشمس، الآية
1).
هذه الآية هي الآية محل دراستنا، حيث بعد تحليل كلمة ضحى،
اتضح لنا أن ضحى الشمس هو حالة انتقالية أو حالة ضعف غير مستقرة بشكل عام. تتبع
لفظ الضحى يدفعنا للقول أن أمام حالة غير مستقرة
ناتجة عن حجب ضوء الشمس كما في الظاهرة المعروفة بالكسوف أو أي حالة أخرى.
ما سوف يحدد المقصود من هذا التعبير القرآني وهل هو الكسوف أم شيء آخر هو سياق
الآيات وتحليل باقي الألفاظ وارتباطها بعضها ببعض.
الآية الثانية:
(وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا)(سورة الشمس،
الآية 2).
ها هي الآية التالية تضيف تأكيد على إن المقصود هو ظاهرة ما
يعرف بالكسوف. إنه وصف هندسي لشكل الظاهرة، حيث تصطف الشمس، والقمر والأرض على خط
واحد، يكون ترتيب القمر في هذا الانتظام
في المنتصف بين الشمس والأرض؛ بمعنى أن القمر حرفياً يتلو الشمس، أي يأتي بعدها في
الترتيب بالنسبة للأرض.
الآية الثالثة:
(وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا)(سورة الشمس،
الآية 3).
الآية الكريمة تتحدث عن أن النهار هو ما يجليها (جلاها) أي
يظهرها، والمقصود هنا أن الظاهرة تكون واضحة لنا بسبب حدوثها في النهار. من
المعروف أن الظاهرة المعروفة بالكسوف تحدث بالنهار، فالقمر يحجب ضوء الشمس عن
الأرض عندما تكون الشمس مواجهة للأرض أي وقت النهار. هذه الظاهرة ما كانت تظهر لنا
وما كنا نتعرف عليها لولا حدوثها بالنهار في وجود ضوء الشمس.
الآية الرابعة: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا)(سورة الشمس،
الآية 4)
وصف دقيق لحال الظاهرة وتأثيرها حتى إذا تلا القمر الشمس
وظهر للعيان احتجب ضوؤها، تحول وقت النهار وكأنه وقت دخول الليل حيث انتشار الظلام
الخفيف. ليس هناك وصف أروع ولا أعظم من وصف غشاها الذي يوحي بالتحول الخفيف
والرقيق للظلمة وليس تحولًا كاملًا كما يحدث في الأيام العادية.
استخدام كلمة غشاء ذات الدلالة الرقيقة والخفيفة يصف الحالة
بكل دقة وبلاغة، بعكس كلمة غطاء مثلًا، والتي توحي بالتحول الثقيل والكثيف.
الآية الخامسة:
(وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا)(سورة الشمس،
الآية 5).
المعلومات المتاحة حول هذه الآية الكريمة غير كافية، وهذا
شئ طبيعي إذا حاولنا فهم كتاب الله، وتجنبنا الاستعجال واحتكار الحقيقة، ربما من
يأتي بعدنا يستطيع من خلال هذه الآية الكريمة إدراك حقائق ومعلومات جديدة لم نتحصل
عليها. ما يسعنا فعله في هذه الجزئية هو محاولة طرح مجموعة من الأسئلة، ومن ثم
محاولة الإجابة عليها، أو على بعضها بحسب المتاح من المعلومات في محاولة لفهم
الظاهرة وعلاقتها ببناء السماء أو الفضاء.
السؤال الأول: لا شك أن الظاهرة هي نتيجة طبيعية للتركيب
البنائي للسماء أو الفضاء الكوني، ولكن ما سر هذا التركيب، ولماذا هو بتلك
الطريقة؟
السؤال الثاني: هل الظاهرة تؤثر على التركيب البنائي للسماء
بطريقة ما؟
السؤال الثالث: هل الظاهرة على علاقة باكتشاف التركيب
البنائي للسماء؟
من الممكن أن يضيف باحثون أسئلة أخرى في محاولة لفهم هذه
الظاهرة وتأثيرها، وعلاقتها بالتركيب البنائي للسماء.
سوف نحاول الإجابة على السؤال الأخير المعني بالعلاقة بين
ظاهرة ما تسمى كسوف الشمس، واكتشاف التركيب البنائي للسماء.
لقد وفرت ظاهرة ما تعرف بالكسوف معلومات هامة عن البناء الكوني
وتركيب الفضاء، ولولا هذه الظاهرة لما تمكن العلم من اكتشاف تلك المعلومات الرائعة.
أولى تلك المعلومات التي حصل عليها العلماء من خلال دراسة
الظاهرة كانت متعلقة بمعادلات رياضية نظرية، وضعها أينشتاين عن إمكانية تأثر الضوء
بالجاذبية، أو ما يمكن أن نطلق عليه انحناء الضوء. إثبات مثل هذا الافتراض يلزمه
مرور الضوء بجوار كتلة كبيرة جدًا، والقدرة على ملاحظة وقياس تأثير هذه الكتلة على
مسار الضوء.
استطاع العلماء ملاحظة وتتبع مواقع النجوم عند حدوث
الظاهرة، حيث وجد العلماء أن مواقع النجوم أثناء عملية الكسوف تغيرت عن مواقعها
بالليل، ولا يمكن أن يحدث هذا التغيير في المواقع إلا إذا حدث انحناء أشعة النجوم
المارة بجانب الشمس، وهو ما أسماه أينشتاين بالانحناء في الزمكان، أو الانحناء في
الزمان والمكان معًا.
هذه المعلومات القيمة مكنت العلماء من دراسة الآفاق السحيقة
للكون، ومنها المادة غير المرئية، والمسماة بالثقوب السوداء.
المعلومة الثانية التي حصل عليها العلماء، والتي لولا ظاهرة
ما تعرف بالكسوف لما أمكن التوصل إليها، ومع ذلك لا يزال تفسير هذه المعلومة لغزًا
محيرًا للعلماء، وهي ارتفاع درجة غلاف الشمس الخارجي عن الأغلفة الداخلية بشكل غير
المنطقي.
الطبقة الخارجية أو الغلاف الخارجي للشمس يسمى كرونا، وهو
غلاف ذو كثافة ضعيفة جدًا. ونظرًا لهذه الكثافة الضعيفة، فإنه لا يمكن رؤية طبقة
الكرونا في الحالة العادية للشمس، ولكن بتغطية قرص الشمس بشكل كامل خلال الظاهرة
المعروفة «بالكسوف» أمكن رصد الكرونا.
يتكون الغلاف المحيط بالشمس من ثلاث طبقات، الطبقة الأولى
وهي المعروفة باسم سطح الشمس، ويبلغ ارتفاع سمكها من 300 إلى 400 كيلو متر، وتبلغ
درجة حرارتها حوالي 6000 درجة مئوية، مع العلم بأن الحرارة في باطن الشمس تصل إلى
15 مليون درجة مئوية.
الطبقة الثانية وهي طبقة الكروموسفير، ويبلغ ارتفاع هذه
الطبقة 2000 كيلو متر، وتصل درجة حرارتها حوالي 10000 درجة مئوية. الطبقة الثالثة
وهي طبقة الكرونا التي نتحدث عنها تبعد ملايين الكيلومترات عن قلب الشمس، ومع ذلك
فإن درجة حرارة الكرونا تفوق المليون درجة مئوية. تم اكتشاف درجة حرارة هذه الطبقة
عن طريق دراسة انبعاث خطوط الطيف، حيث دلت التحاليل على وجود عنصر الحديد في درجة
عالية جدًا من التأين حيث فقدت ذرة الحديد 13 إلكترونًا والطاقة اللازمة لجعل ذرة
الحديد تفقد الإلكترون الـ 13 تساوي تقريبا 2 مليون درجة مئوية.
السؤال الأكثر إلحاحًا في هذه الجزئية، كيف لطبقة الكرونا
أن تكون ذات درجة حرارة مرتفعة بهذا الشكل، والمنطق يقول إنه كلما ابتعدنا عن سطح
الشمس كلما قلت درجة الحرارة؟
حاول علماء كثر تفسير هذه الظاهرة، ونظريات كثيرة تم
استبعادها، وما يزال لغز الكرونا عصيًا على الفهم. ليس لدينا الكثير لنقوله حول
بناء السماء، ولكن مما لا شك فيه أن الظاهرة المعروفة «بالكسوف» أظهرت حقائق
ومعلومات كانت غائبة عنّا عن البناء الكوني، ونحن في انتظار المزيد، فتقدم العلم
وتطور أدواته لابد أن يكشف لنا المزيد من الأسرار.
الآية السادسة:
(وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا)(سورة الشمس:
الآية 6).
عندما فسر المفسرون كلمة طحاها تم وصف الكلمة بمعنى بسطها
أو قسمها.
كلمة طحا لم ترد إلا مرة واحدة في كتاب الله، لذلك كان من
الصعوبة بمكان تتبع الكلمة وقياسها على مثيلاتها. عن طريق الاستعانة بجذر الكلمة
ومن خلال قاموس اللغة لابن فارس، نجد أن جذر الكلمة هو طحو، الطاء والحاء والواو،
ولها أصل صحيح هو البسط والمد، ويقال طحا بك همك إذا ذهب بك في الأمر ومد بك فيه.
لو وقفنا على معنى الطحو بأنه يعني ذهب بك في الأمر (ابتعد) قد نكون اقتربنا
كثيرًا من معناها، وبمقارنة الحقائق العلمية قد نصل للحقيقة.
الحديث منصب على الظاهرة الشمسية المعروفة «بالكسوف»، فلو
تحرينا وضع الأرض في هذه الظاهرة وما يحدث لها قد نصل لمدلول كلمة طحا أو الجذر
طحو.
الظاهرة الشمسية تحدث عندما يقع القمر بين الأرض والشمس،
بحيث يحجب القمر ضوء الشمس عن الأرض، وعندما تصبح الثلاثة أجرام على استقامة
واحدة، والقمر في المنتصف فهذا هو وقت ولادة القمر الجديد، وهو ما يسمى بطور
المحاق.
هذا الترتيب الهندسي يعني أن ظاهرة «الكسوف» لابد لها أن
تحدث نهاية كل شهر قمري. لكن ما يحدث في
الواقع أن القمر يكون في نقطة أبعد من أن يصل ظله إلى الأرض فلا تحدث الظاهرة من
الأساس. يقول العلماء أن مدار القمر يتقاطع مع مستوى دوران الأرض عند نقطتين،
إحداهما تسمى نقطة صاعدة والأخرى تسمى نقطة هابطة. إذا كان مستوى مدار القمر ينطبق
تمامًا مع مستوى دوران الأرض سوف يحدث «الكسوف» نهاية كل شهر و«الخسوف» منتصف كل
شهر، وهذا ما لا يحدث عمليًا.
تحدث ظاهرة «الكسوف» فقط إذا وصل ظل القمر إلى الأرض، ويحدث
ذلك حصريًا إذا مر القمر بإحدى العقدتين؛ إما الصاعدة وإما الهابطة. كذلك يحدث
«الكسوف» الكلي عندما يكون القمر في نقطة أقرب ما يكون للأرض، ويسمى الحضيض، وتكون
الأرض أبعد ما تكون عن الشمس.
يحدث الكسوف الكلي عندما تكون الأرض أبعد ما يكون عن الشمس،
هذا هو ما نبحث عنه وضع الأرض بالنسبة للشمس تحديدًا.
من هنا نستطيع القول أن طحا الأرض تعني بُعد أو ابتعاد
الأرض عن الشمس حتى تحدث الظاهرة بشكل تام. ظن المفسرون أن طحاها هو مد الأرض أي
سطحها، ولكن يبدو أن طحاها تعني مد الأرض ككتلة واحدة، وأبعدها إلى أبعد نقطة حتى
تحدث الظاهرة المعروفة بالكسوف.
حالة رائعة ووصف دقيق يثبت أن هذا القرآن هو كلام رب
العالمين الخالق، إنها الألفاظ القرآنية التي تصف الحالات والمسميات وصفًا لا يقدر
عليه سوى الله ولو اجتمع الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا الوصف ما استطاعوا
الوصول لحقيقة الأشياء. نسجل ذلك يقينًا ومعرفة وليس مجرد ترديد أقوال وعبارات
موروثة محفوظة في الذاكرة دون أي إدراك لمعناها.
بعد هذه الآيات الكريمات التي وصفت الظاهرة التي نحن بصددها
وصفًا دقيقًا بلغيًا معجزا حقًا، لدينا الآن إشارات يجب أن تُبحث وتُوضع تحت
المجهر، وهي الإشارات الواردة في كتاب الله بعد هذه الآيات.
آيات كريمة تتحدث عن علاقة ما بين النفس من حيث الهدى
والفجور وبين هذه الظاهرة العلمية:
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا(8)قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9))(سورة الشمس: الآيات 7-9).
السؤال هنا، ما علاقة الظاهرة التي نحن بصددها بالنفس
البشرية؟
بالبحث سنجد أن علاقة العواصف الشمسية و التأثيرات
الكهرومغناطيسية على السلوك النفسي، والأبحاث المنشورة عن علاقة العواصف الشمسية
بحالات الانتحار تدعم بشدة العلاقة القوية بين الشمس وبين النفس البشرية (راجع فصل
فطرة الله التي فطر الناس عليها، الجزء الأول). يبدو لي أن ظاهرة ضحى الشمس، أو ما
يسمى بالكسوف على علاقة وثيقة بالنفس البشرية، أو قد تدعم وتعزز الاستقرار النفسي بشكل
أو بأخر. هذا مجرد رأي غير مدعوم بنظريات علمية حتى الآن. من الممكن وضع هذه
الاحتمالية والفرضية أمام الباحثين المهتمين بعلم النفس والسلوك النفسي، لفهم
تأثير ظاهرة (الكسوف) على الحالة النفسية للإنسان.
هناك طرق عديدة يمكن من خلالها رصد تأثير هذه الظاهرة بشكل
علمي، ويعرفها الباحثون جيدًا؛ فعلى سبيل المثال يمكن تتبع سجلات المستشفيات
النفسية في أيام (الكسوف)، ومدى تأثر الأشخاص في ذلك اليوم، أو حتى تتبع سجلات
أجهزة الشرطة عن معدلات الجريمة في هذا الوقت. يمكن أيضا إخضاع عدد كبير من
الأشخاص للاختبارات والقياسات النفسية اوقات الكسوف ومن ثم تسجيل أي تغيرات. كثيرة تلك الطرق التي يستطيع الباحثون من
خلالها تتبع تأثير الظاهرة على الإنسان ومعرفة مدى ارتباطها بالنفس البشرية وسلوك
الإنسان.
إنها حالة فريدة نقرر فيها أن اللفظ القرآني يمكن أن يهدي
إلى معارف لم تُكتشف بعد. بديلاً عن ما يسمى الإعجاز العلمي التقليدي الذي يبحث
المكتشفات الحديثة ثم يبحث عن صداها في كتاب الله. نؤسس لمنهج جديد يحاول فهم
الكون من خلال فهم اللفظ القرآني الذي يرشد ويشير إلى الآية الكونية من خلال قراءة
وتحليل منهجي وليس مجرد رؤية شخصية للمفسر أو الشارح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق