Translate

الفصل التاسع: حور عين

الفصل التاسع: حور عين

لو قُدر لنا أن نسأل الجنين في بطن أمه عن الحياة بعد الولادة لما استطاع مهما وصل خياله وعبقريته، بفرض أنه عبقري في هذه الحالة، أن يتخيل الحياة بعد الولادة. لن يدرك معنى التنفس أو معنى الرحابة والسعة، لن تكون لديه أي فكرة عن التذوق، لن تخطر على باله مسألة الشعور والإحساس، وكم هي جميلة لحظات السعادة التي لا يمكن القبض عليها بشكل مادي. مهما شرحت له، ومهما وصفت ومهما أبدعت في الوصف فلن يمكن أن تعطيه وصفاً حقيقاً لما سوف يري؛ لأنه بسهولة شديدة ليست لديه أدوات قياس حقيقية يستطيع من خلالها فهم الحياة بعد الولادة.

لو قلت له أنك سوف تتنفس الهواء بديلاً عن هذا الحبل الواصل بينك وبين أمك فلن يفهم معنى التنفس لأنه لم يجربه ولم يختبره، ولن يعرف ماذا تقصد بالهواء. لو قلت له أن الغذاء أصناف وأشكال، كل منها له مذاق رائع ولون مختلف، هو لن يدرك مفهوم المذاق، ولن يعرف ماذا تقصد باللون. إن أقصى ما يمكن عمله في هذه الحالة هو أن تقرب له المعاني والمفاهيم بحيث يستطيع أن يدرك اختلاف الحياة بعد الولادة عن قبلها ويدرك أنه سوف يكون سعيدًا، ولن يتمنى بحال من الأحوال أن يعود لبطن أمه حيث الضيق والمحدودية في كل شئ.

لو قدر لك أن تسأل الهدهد، عن مفهوم الجنة لديه فلن يزيدك عن قوله أرض مليئة بالخبء. جنة الضفدع مستنقع؛ وجنة العصفور شجرة.  اذهب واسأل دودة القز عن جنتها، فسوف تخبرك أنها أرض سطحها التوت، وسقفها التوت، وحيطانها التوت، وأنهار تجري بورق التوت. حتى إذا استوت دودة القز وصارت فراشة تبدل مفهوم الجنة لديها ليصير أرض الزهور، والورود والرحيق اللا نهائي.

لن تمثل الزهور والرياحين قيمة تذكر لدى دودة القز وكل ما يعنيها هو ورق التوت، كما لن يمثل ورق التوت قيمة لدى الفراشة في طورها الناضج. ما يمكن أن تعده نعيماً مقيما في فترة قد يتحول عديم القيمة في المستقبل. النسبية تغزو كل شئ وتصر على الإطاحة بكل ثابت.

لو سألت إنسانًا عن رغبته في أن تكون لديه حور عين في الجنة، على اعتبار أن الحور العين هن النساء الجميلات، بل فائقات الجمال، لن يتردد في الإجابة بنعم وألف نعم.

نساء أهل الجنة؛ هذا هو المفهوم الذي يتبادر إلى الذهن بمجرد سماع لفظ الحور العين.

مفهوم المتعة هو مفهوم نسبي للغاية، وكما الرجال يستمتعون بمرافقة النساء، فكذلك النساء يستمتعون بمرافقة الرجال. ليس هناك فرق يذكر بين الرجال والنساء في هذه الجزئية.

لماذا يحتكر الرجال (الذكور) الجنة ونعيمها بينما  تحول مفهوم النساء إلى أشياء ومتاع؟ لماذا لا يكون لها نفس النصيب كما للرجال والجنة ليست حكرًا على جنس معين؟

هل الفهم الخاص بأن النساء متاع فإنهن خلقن للرجال، هل هو منهج قرآني أم أنه تراث إنساني جاء القرآن يضبطه ويصحح المفاهيم حوله؟

ما استطعنا استنتاجه من خلال تحليل اللفظ القرآني والخاص بلفظ الحور العين تحديدًا يخبرنا أن كل ما نسجناه حول الحور العين وعلاقتها بالعلاقات الجنسية هو محض تصورات ذهنية، وصور نمطية للمتعة داخل أدمغة البعض ليس لها أي علاقة بالمنهج القرآني.

الحديث عن الجنة في كتاب الله يستخدم في الأغلب الأعم صيغة  الجمع أو صيغة النفوس والتي تشمل الذكور والإناث.

(وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(سورة البقرة، آية 82).

لفظ الذين آمنوا هو لفظ عام يدخل تحته الذكور والإناث ولا يمكن لعاقل القول إن المقصود هنا الذكور حصريًا. الآية التالية تقرر هذه الحقيقة من خلال تحديد الذكر والأنثى بشكل مباشر.

(وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)(سورة النساء، آية 124).

سوف نرى من خلال الآيات التالية كيف أن الحديث عن الجنة حديث موجه للنفوس  والناس بصفة عامة من ذكر أو أنثي دون تفضيل جنس على جنس.

(وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(سورة الأعراف، آية 42).

تحدثت الآية الكريمة هنا أيضًا عن تخصيص الجنة بشكل شمولي لا بشكل إقصائي حيث التعبير لا نكلف نفسًا ينقل للأذهان أن المراد بالحديث النفس بصفة عامة وليس الجنس ذكر أو أنثى.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)(سورة الزمر، آية 73).

الذين اتقوا ربهم هم بالطبع من جنس البشر المكلف وليس نوعًا معيًان وجنسًا محددًا.

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا)(سورة مريم، آية 63).

العبودية مفهوم يشمل الإنسان بغض النظر عن جنسه ولا يقول أن المقصود هنا هو جنس الذكور إلا متحيز لا يستبين مدلول الألفاظ.

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)(سورة غافر، آية 40).

تأكيدات متتالية على أن الجنة ليست مكان امتياز لجنس فوق جنس، وإنما دار جزاء ومنح  وعطايا للنفوس على السواء.

التفسيرات التي جعلت جنسًا يسود على جنس، وجنسًا يملك الحق في اتخاذ جنس آخر كمتاع هي تفسيرات تخص أصحابها ورؤى جنينية لمفهوم الجنة وحالة الجنة لا يمكن أن تصل لحقيقة الجنة وحالها. الكلمات القرآنية والتعبيرات الربانية تصف حالات عبقرية لأنها من لدن حكيم عليم. من خلال تحليل الألفاظ والتعبيرات يمكننا أن نتلمس طريقنا، ولا نجزم أبدًا أننا وقفنا على الحقيقة؛ فلا يعلم تأويله إلا الله.

من أجل فهم شامل للتعبير القرآني حور عين سوف نحاول فهم جذر الكلمات ومدى ارتباطه بالمدلول في كتاب الله.

مدلول كلمة حور

كلمة حور كما جاء في قاموس اللغة لها ثلاثة أصول: أولها لون من الألوان، وثانيها الرجوع، وثالثها شئ يدور دورًا.

تبعًا لمنهجنا في فهم اللفظ القرآني فإن الكلمة تحمل وصف حالة معينة، وعلى ذلك هي في الحقيقة تحمل وصفًا وأصلًا واحدًا، ولكن بسبب بعض الاختلافات، واعتماداً على نسبة التحريف التي أصابت لسان العرب، فقد اكتسبت بعض الكلمات أصولًا زائدة عن أصلها الحقيقي. ما يقرر ذلك هو كتاب الله، وليست أمانينا. من خلال التحليل الدقيق للكلمات وأصولها نستطيع استخراج الأصل الصحيح والذي غالباً ما تكون الأصول الأخرى فروعًا منه أو حالات خاصة من الأصل الأول.

مثال كلمة حور والتي يقول معجم اللغة أن لها ثلاثة أصول وهي لون، ورجوع،  ويدور دوراً. من خلال تتبع اللفظ في كتاب الله نجد أن الأصل المسيطر هو يدور دورًا، ومن خلال فهم مدلول الرجوع واللون نستطيع أن نستخلص أن الأصلين الباقين ما هما إلا حالة خاصة من الأصل الأول وهو يدور دورًا.

الرجوع ما هو إلا دورة أيضا ولكنها دورة واحدة بحيث من يذهب يعود وهذا هو المقصود بأصل الحور  هو الرجوع (عودًا على بدء). أما الأصل الثاني لكلمة حور وهو لون، فقد جاء من خلال المعاجم أن بياض الشئ أي تبيضه هو الحور، ويقال حور الثياب يعني بيضها. من هنا نسطيع أن نقول أن أصل حور لا يمكن أن يكون لونًا في المطلق، وإنما لون عائد من اللون الأصلي. عملية تحويل اللون إلى اللون الأصلي هي ما يمكن تسميته بالحور وهي عملية دوران أيضًا أو إعادة الثوب إلى اللون الأصلي أو إرجاعه إلى أحد أصوله.

من هنا نستطيع القول أن لفظ حور يعني إدارة الشئ دورات معينة. من ذلك أيضًا الحوار الذي نعرفه حيث سُمي الحوار حوارًا لأنه يتم فيه أخذ ورد، حيث يتكلم شخص ويرد عليه آخر وهكذا كأنها دورات من الحديث والحديث المقابل. لو لم يكن الحوار بهذا الشكل من الأخذ والرد المتكرر لما صح أن يسمى حوارًا.

ذكر لفظ حور أو أحد مشتقاته في كتاب الله في عشرة مواضع، خمسة منها جاءت في صورة حور وخمسة جاءت في صورة حواريين (أصحاب نبي الله عيسى). 

الآية الكريمة التي نستطيع من خلالها فهم مدلول كلمة حور بشكل صحيح، مع الأخذ بعين الاعتبار جذر الكلمة هي الآية رقم 14 الواردة في سورة الانشقاق. وحتى يمكننا فهم اللفظ لابد من فهم سياق الآيات قبل وبعد هذه الآية الكريمة.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7)فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا(8)وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(9)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11)وَيَصْلَى سَعِيرًا(12)إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(13)إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ(14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا(15))(سورة الانشقاق، آيات 7-15).

بالنظر إلى سياق الآيات الكريمة نجد أن مدلول حور هو الرجوع على أصله أي يعود إلى حالة كان قد غادرها، وهذا هو أصل كلمة حور والتي تعني يدور دورًا. لقد جاءت التفاسير تصف كلمة حور بالرجوع، ولكن لسبب ما حدث خلط بين وصف الحور بالرجوع، وبين وصف الحور باللون أو باللون الأبيض تحديدًا، كما جاء من خلال تفسير القرطبي:

(إنه ظن أن لن يحور أي لن يرجع حيًا مبعوثًا فيحاسب، ثم يثاب أو يعاقب . يقال: حار يحور إذا رجع، قال لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع. وقال عكرمة وداود بن أبي هند ، يحور كلمة بالحبشية ، ومعناها يرجع. ويجوز أن تتفق الكلمتان فإنهما كلمة اشتقاق؛ ومنه الخبز الحوارى، لأنه يرجع إلى البياض. وقال ابن عباس: ما كنت أدري: ما يحور؟ حتى سمعت أعرابية تدعو بنية لها: حوري، أي ارجعي إلى، فالحور في كلام العرب الرجوع؛ ومنه قوله - عليه السلام -: اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور يعني: من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحور بالضم. وفي المثل (حور في محارة) أي نقصان في نقصان. يضرب للرجل إذا كان أمره يدبر، قال الشاعر: و استعجلوا عن خفيف المضغ فازدادوا والذم يبقى وزاد القوم في حور. والحور أيضا: الاسم من قولك: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا؛ أي ما ردت شيئا من الدقيق. والحور أيضا الهلكة؛ قال الراجز: في بئر لا حور سرى ولا شعر) انتهى التفسير.

رغم أن التفسيرات والأقوال تثبت أن الحور هو الرجوع، ولكن كما نعلم أن الترادف الكامل غير موجود باللغة العربية. الكلمات دائمًا تصف حالة دقيقة من حيث الصفات والخصائص، ولا يمكن أن تؤدي كلمة معنى آخر بنسبة مائة بالمائة، ولابد من وجود تغير في حالة أي كلمة عن الأخرى. كذلك لا يمكن أن تكون كلمة حور هي نفسها كلمة رجوع، إنما كلمة حور تعني دورة، أو تعني عودًا على بدء، أو انطلق من نقطة ثم عاد إلى نفس النقطة أي أتم دورة كاملة. بينما مفهوم الرجوع لا يشترط أن يكون عائدًا إلى نفس النقطة.

على ذلك نستطيع القول أن لفظ الحور يصف دورة كاملة، وهو أقرب لمفهوم التماثل.

التماثل بتعبير بسيط هو عند تدوير شكل معين بدرجة ما ينتج نفس الشكل، مثال ذلك المثلث متساوي الأضلاع له ثلاثة محاور تماثل، أي أنه عند تدوير المثلث سوف يعطي نفس الشكل كل دوران قيمته 60 درجة. تستطيع العين أن تميز الجمال في الأشياء كلما كانت درجة تماثل هذه الاشياء كبيرة، ويعتبر التماثل في اللوحات الفنية ذا قيمة عالية، ولعل المنحوتات الفرعونية اكتسبت قيمتها الفنية العالية لما لها من درجة تماثل عالية جدًا.

التماثل هو في الحقيقة من أسرار الجمال التي تكمن في الأشياء، وعكسه التشوه، فيقال عن الفاكهة المنتظمة متماثلة، إذا كان يمكن تقسيمها إلى أجزاء متساوية. وكل شئ يمكن تقسيمه إلى أجزاء متساوية هو في الحقيقة يملك درجة من درجات التماثل. من الطبيعي إذا حدث تشوه في الشكل لو بدرجة بسيطة، هنا سوف يفقد الشكل ميزة التماثل بحيث عند تقسيم الشكل إلى أجزاء سوف يصبح أحد الأجزاء أكبر أو أصغر قليلًا من الأجزاء الباقية.

إذا كان التماثل هو أحد أسرار الجمال، فهو لا شك أيضا دليل على سلامة وصحة المنتجات الطبيعية مثل الفاكهة والخضروات. كثير من أماكن بيع الفاكهة والخضروات ذات المستوى المرتفع تقوم بفرز المنتجات على أساس التماثل، حيث تستبعد أى منتج غير متماثل، لأن التماثل في حد ذاته دليل على صحة وسلامة المنتج بالإضافة إلى شكله الجمالي المميز.

مدلول كلمة حور والتي تصف دورة هي في الحقيقة تصف التماثل أو قل إن شئت أساس التماثل، مفهوم رياضي هندسي بحت.

بعد أن وقفنا على مدلول كلمة حور من خلال جذر الكلمة ومن خلال مدلول الكلمة في الآية الكريمة السابقة سوف نحاول فهم مدلول كلمة عين حتى يكتمل التعبير القرآني.

مدلول كلمة عين

جذر كلمة عين هو العين والياء والنون، وقد جاءت في قواميس اللغة على أن أصلها العين التي يبُصر بها أو التي منها النظر. لم تتطرق القواميس للحالة التي يصفها جذر الكلمة، ولكن من خلال كتاب الله سنجد مفهومًا أكثر شمولية للفظ العين، من خلال مقارنة آيتين من آيات كتاب الله:

الآية الأولى: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(سورة البقرة، آية 60).

العين هنا هي عين الماء كما يتضح، وعين الماء هي الشئ الذي يفيض بالماء.

الآية الثانية: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(سورة المائدة، آية 83).

من خلال هذه الآية الكريمة يتم تحديد خواص وصفات لفظ العين، حيث العين هي الشئ الذي يفيض بالدمع والآية السابقة العين تفيض بالماء، ولابد أن نلاحظ أن الفيض أو إفراز السائل هو عملية مستمرة ومتجددة.

على ذلك يمكننا القول أن مدلول كلمة عين هي الشئ الذي يفيض بشئ بشكل مستمر، أو يمد بشئ مافي صورة متجددة،  وسميت العين التي نبصر بها عينًا لأن من خواصها إفراز سائل يحافظ على صفة البصر؛ وسميت عين الماء بهذا الاسم بسبب خاصيتها التي تعتمد على الفيض المستمر.

بالإضافة إلى الآيتين السابقتين يمكننا  الاستعانة بلفظ (يستعين) الذي ورد في سورة الفاتحة لتثبيت المعنى وتقوية الفكرة حيث جذر الكلمة واحد بزيادة أحرف العلة والسين والتاء ليتحول لفظ عين لفظ يستعين أو استعين.

حرف العلة والسين والتاء تفيد- كما يقول أهل اللغة- الطلب، ولفظ يستعين كما نعلم يعنى طلب المدد أو العون، فيكون لفظ عين وحده هو وصف حالة مدد أو حالة فيض، وعندما دخل مقطع الألف والسين والتاء على اللفظ أصبح اللفظ يعني طلب العون أو المدد أو الفيض. مفهوم لفظ يستعين متوافق تمامًا مع مدلول جذر كلمة عين في كتاب الله التي تعني الشئ الذي يفيض باستمرار. من هنا نستطيع القول أن لفظ عين هو وصف لحالة من الفيض المستمر أو المدد المستمر. خاصية الاستمرار هي خاصية رئيسة من خواص المسمى (العين)؛ لأنه في حالة جفاف العين الخاصة بالنظر سوف تفقد حقيقتها وتتلف، وبالتالي لا يصح تسميتها بالعين، وكذلك جفاف عين الماء يجعلها مجرد حفرة ولا ينطبق عليها لفظ عين لأنها فقدت القدرة على الفيض المستمر.

من هنا يمكننا فهم الآية الكريمة التي أشكلت على الكثيرين في سورة الطور:

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ)(سورة الطور، آية 48)

حاول البعض تفسير العين هنا بشكل تجسيدي على أنها تشبه عين الإنسان، تنزه ربنا عن ذلك وعلا علوا كبيرًا، والبعض قال الآية تعني أنك بنظرنا وتحت مرآنا، والبعض الآخر قال نؤمن بالآية ولا نسأل عن كيفية العين.

هذا الارتباك شئ طبيعي في حالة فهم العين على أنها جنس العين التي تبصر بينما إذا تم فهم العين على أنها  تمثل حالة الفيض والعون والمدد المستمر زال كل التباس. إنك بأعيننا أي في قلب الفيض المتجدد والعون والمدد المستمر من الله. هل هناك اطمئنان أبلغ من هذا الاطمئنان؟ الفهم هو مفتاح الوصول وتمام الإيمان وسلامة القلب بينما التقليد دون وعي حقيقي هو الباب الخلفي للكفر والشرك والإلحاد.

إذا كان الحور يعنى دورة أو تماثل كما ذكرنا، والعين تعني حالة فيض أو مدد مستمر متجدد، يصبح التعبير القرآني العظيم (حور عين) حالة من التماثل و الاستمرارية والتجدد، وهذه الحالة هي الحالة المثالية التي تصف الجنة ومشتملات الجنة في كل آيات الكتاب العظيم.

لو بحثت في قواميس اللغة عن تعبير بسيط و بليغ يعبر عن النعيم الأزلي في صورة مثالية لن تجد تعبيرًا أبلغ ولا أروع من التعبير القرآني حور عين. فكل ما في الجنة هو في حالة حور عين أي في حالة تماثل كامل (حور) وتجدد واستمرارية (عين).

بعد هذا التقديم ومحاولة فهم مدلول كلمتى حور وعين ثم دمجهما سويًا لفهم التعبير بشكل كامل، دعونا ننتقل لبحث جميع الآيات الكريمة التي ورد فيها لفظ حور عين بيان مدلولها.

الآية الأولى: (كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ)(سورة الدخان، آية 54).

لفظ زوجناهم هنا أشكل على كثير من المفسرين وذهب تفكيرهم إلى حالة تزاوج الذكر بالأنثى وخصوصًا العملية الجنسية. المتتبع للفظ زوجناهم في اللغة وفي كتاب الله سوف يجد أن لفظ زوج يعني رافق وصاحب بشكل متوافق. جذر زوجناهم هو زوج ويعني كما في قاموس اللغة مقارنة شئ بشئ. من خلال كتاب الله نجد أن مقارنة شئ بشئ لا تكفي ولابد من وجود حالة توافق، ومن ذلك سمي الزوج والزوجة بسبب حالة التوافق والتكامل بينهما

معنى التزويج واضح في سورة الشورى كما في الآية التالية: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)(سورة الشورى، آية 5).

لا يمكن لعاقل أن يفهم أن التزويج هنا يعني أي شئ من قبيل النكاح، ولكن يأتي لفظ يزوجهم ذكرانا وإناثا أي يرافقهم ويتوافق معهم ذرية من الذكور والإناث. لفظ يزوجهم لا يقتصر على مجرد منحة الذرية، بل أن تكون هذه الذرية متوافقة ومنسجمة مع والديها، وهذا هو تمام النعمة وكمال العطية.

الآية الثانية التي تعطينا تأكيدًا على مفهوم الزوجية بأنه التوافق والتكامل والتوافق هي الآية في سورة ق:

(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(سورة ق، آية 7).

في هذه الآية الكريمة إشارة إلى قانون الزوجية الذي يحكم كل مكونات الكون حيث كل جزء يتوافق مع جزء آخر ويتكامل معه لأداء الوظيفة المنوط بها على أكمل وجه.

آية أخرى في كتاب الله تنهي هذا الجدل وتوضح مفهوم لفظ زوج في سورة الصافات:

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ)(سورة الصافات، آية 22).

السؤال المنطقي هو ما ذنب أزواج الذين ظلموا إن كان مفهوم الزواج هو المفهوم المتداول لدى البشر؟

الإجابة بالطبع لا تزر وزارة وزر أخرى، ولا يمكن أن يستقيم هنا مفهوم الزواج إلا إذا كان يعني الموافقين توافقا تامًا وكاملًا مع الذين ظلموا. أزواج الذين ظلموا هم أعوانهم الذين يكملون الناقص، و يتطوعون بإتمام ما لم يتم، وهم على ذلك متوافقون تمامًا مع هؤلاء الظالمين.

من هنا نجد أن معنى زوجناهم بحور عين أي يرافقهم ومتوافق تمامًا معهم في حالة من التماثل و التجدد والاستمرارية. أصحاب الجنة تلازمهم  هذه الحالة الفريدة في كل ما حولهم وفي كل نعيم يذوقونه. حالة الحور العين في هذه الآية الكريمة حالة عامة وليست مقصورة على شئ معين كما نلاحظ في الآيات السابقة لهذه الآية الكريمة والآيات اللاحقة لها:

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى  وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ((56))(سورة الدخان، آية 51-56

 سبقت آية زوجناهم آيات كريمة تتحدث عن جنات وعيون ولباس أهل الجنة، والآية التالية تتحدث عن فاكهة خاصة بأهل الجنة. كل هذه المعطيات تتميز بحالة التماثل، وهو عين الجمال، وعدم التشوه، والتجدد والاستمرار، وهذا المعنى هو ما تؤكده الآية رقم 56 والتي تتحدث عن الخلود وأن أهل الجنة لا يذوقون الموت فيها.

الآية الثانية:

(وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ)(سورة الطور، آية 20)

ما جرى على الآية السابقة والتي جاء فيها التعبير القرآني زوجناهم بحور عين يجري تمامًا على هذه الآية الكريمة، ومن خلال سياق الآيات السابقة واللاحقة يصبح الأمر أكثر وضوحًا.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ(22))(سورة الطور، الآيات 17-22).

في هذه الآيات الكريمة نفس المعنى السابق وهو متع سبقت التعبير القرآني وزوجناهم بحور عين، مثل الفاكهة ولحم مما يشتهون. كل هذه المتع يجري عليها وصف الحور العين وهي التماثل، وعدم وجود تشوه، والتجدد والاستمرار، وهو عين حال الجنة والذي تؤيده جميع الآيات التي تتحدث عن الجنة ونعيمها.

نحن لا ننفي ولا نثبت أن هناك متعة جنسية في الجنة بسبب عدم ورود نص صريح في كتاب الله يتحدث عن هذه المتعة؛ بينما توجد نصوص متعددة تتحدث عن المتع الأخرى مثل الفاكهة، و الشراب، و البطائن، والأرائك. كل ما هنالك أننا نقول أن لفظ الحور العين نفسه لا يعني نساء أهل الجنة، ولو أن هناك متعة جنسية في الجنة فسوف ينطبق عليها حال الحور العين؛ بمعنى أنها متعة غاية الكامل، ليس هناك ما يشوبها، وهي متعة متجددة؛ أي أنها في كل مرة تختلف عن التي قبلها. لذلك نحن لا نقول بشئ لم يذكره الله صراحة في كتابه، ونؤيد هذا الفرض بتحليل التعبير القرآني حور عين الذي لا يصف نساء أهل الجنة، وإنما هو وصف أعم وأشمل وأكمل يصف حالة الجنة ونعيمها التام الأبدي.

كثير من المجتهدين المعاصرين فسروا الحور العين على أنها فاكهة وليست نساء أهل الجنة، ولكن الصحيح أن لفظ الحور العين هو لفظ عام يصف حالة الأشياء، ويمكن فهم المقصود هل هو فاكهة أو غير فاكهة من خلال سياق الآيات. إذا كان الحديث منصبًا على الفاكهة، ثم وصف هذا الحديث بحور عين، فذاك يعني أن الفاكهة سليمة تمامًا لا شائبة فيها، ومتجددة باستمرار (تماثل وتجدد). التجدد على كل المستويات من اللون والطعم والشكل بحيث تبدو وكأنها بداية كل شئ، وهل هناك متعة تفوق متعة البدايات.

إذا كان الحديث عن لحم طير، فكذلك توصيف حور عين يعني أيضًا التماثل والتجدد. وإذا كان الحديث عن بطائن وفرش، فكذلك صفات هذه الفرش والبطائن التماثل والتجدد، وإن كان الحديث عن متعة جنسية فيجري عليها ما جرى على سابقيها من التماثل والتجدد.

الآية الثالثة: (حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)(سورة الرحمن، آية 73).

التعبير القرآني في هذه الآية الكريمة جاء بلفظ حور فقط دون لفظ عين مما يدل على صفة التماثل هي السائدة بينما صفة التجدد لم ترد. هذا الوصف الرائع موافق تمامًا لحالة المقارنة الواردة في سورة الرحمن حيث حالة الجنتين الأولى والتي خصصها ربنا لمن خاف مقام ربه  وحالة الجنتين الأقل كما يظهر من الآيات التالية.

(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ(48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ(50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(51) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ(52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ(54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ(56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ(58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ(60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(61) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ(62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(63) مُدْهَامَّتَانِ(64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ(66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ(68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ(70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(71) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ(72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ(74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان(75))(سورة الرحمن، آيات 46-75).

سورة الرحمن تتحدث عن ثنائيات عجيبة، من هذه الثنائيات مقارنة ومقابلة بين نوعين من الجنان. النوع الأول لمن خاف مقام ربه جنتان. النوع الثاني قال عنه ربنا من دونهما جنتان. من خلال إجراء مقابلات بين ما تحتوية الجنتين الأوليين وبين ما تحتويه الجنتين الأخريين نلاحظ الوفرة في الجنتين الأوليين بينما الأقل وفرة في الجنتين الأخريين.

الجنتان الأوليان: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، الجنتان الأخريان  مُدْهَامَّتَانِ

الجنتان الأوليان: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ، الجنتان الأخريان:  فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ

الجنتان الأوليان: فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، الجنتان الأخريان:  فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ

الجنتان الأوليان: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ، الجنتان الأخريان:  فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ.

الجنتان الأوليان: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ، الجنتان الأخريان:  حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ

الجنتان الأوليان: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ، الجنتان الأخريان: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ.

من خلال المقابلة سنجد أن كل حالة وفرة  للجنتين الأوليين تقابلها حالة وفرة أقل في الجنتين الأخريين، وعلى ذلك نجد أن آية (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)  تقابلها  آية (حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَام). تم تفسير الآية الخاصة بقاصرات الطرف في الفصل السابق وقلنا أن قاصرات الطرف يعني تأثير الفاكهة أو المأكل والمشرب مقصور على النفع فقط ولا يتعدى إلى الضرر.

 لدينا بعض الملاحظات الهامة على وصف الحور العين في هذه الآيات تحديدًا على أنه تصف الفاكهة وليس وصفًا لنساء الجنة.

الآية التالية (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) تنفي ذلك تمامًا.

فهل تعتقد أن وصف الياقوت بلونه الأزرق أو الأحمر، والمرجان بألوانه الأبيض، والأحمر، والوردي والأحمر الداكن، يتناسب مع وصف النساء، أم أن وصف الفاكهة هو الأقرب؟

 قد يكون لفظ يطمثهن هو ما أشكل على الناس فهم هذه الآية؛  أو  أن ضمير التأنيث  هن سبب بعض التشويش لدى الكثيريين.  وحتى نزيل هذا الالتباس سوف نعرج قليلًا على تعريف هذه المسميات بشكل بسيط  ومختصر. ضمير التأنيث «هن» هو عائد على قاصرات الطرف، والتي تصف أشجار الفاكهة، أو الفاكهة ذاتها، وقد ورد في كتاب الله هذا الضمير واصفًا غير العاقل في أكثر من موضع.

(حَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)(سورة البقرة، آية 197).

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)(سورة نوح، آية 16).

أما لفظ يطمث فأصله طمث ويعنى المس، واللفظ لم يرد في كتاب الله سوى في موضعين واصفًا قاصرات الطرف. من خلال تتبع اللفظ وتحليله، والحالة التي يصفها، ومقارنة اللفظ مع لفظ طمس المقارب في الصوت للفظ طمث سنجد أن الطمث يعني مس الشئ مما يسبب أذىً معينًا. يذهب كثير من الناس إلى أن الطمث هو طمث النساء المعروف؛ ولكن من خلال كتاب الله يتضح لنا خطأ هذه الفرضية.

تسمية العملية البيولوجية التي تحدث للنساء بالطمث هي تسمية بشرية خالصة وليست صحيحة، حيث استمدت خصائصها وصفاتها من المعارف القديمة وخصوصًا معارف أهل الكتاب الذين كانوا يظنون أن هذه العملية البيولوجية هي مس من الشيطان يؤذي من خلالها المرأة. هذا المسمى صححه القرآن من خلال تسمية هذه العملية بالحيض.

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)(سورة الطلاق، آية 4).

من هنا نجد أن لفظ الطمث هو المس الذي يسبب أذى، وأقرب معنى معاصر له هو عملية التلوث؛ فيكون معنى يطمثهن أي لا يلوثها.

لفظ الإنس يعني الحضور والمشاهدة، وقد تم شرح هذا اللفظ من خلال الجزء الثالث من الكتاب عند تحليل كلمة الإنسان وفهم مدلولها.

لفظ الجان أصله جن، ويصف حالة من صفاتها وخصائصها الاختفاء وعدم القدرة على رؤيتها.في الوضع الطبيعي، معنى الإنس والجان في الآية الكريمة هو الأشياء الظاهرة الواضحة الحاضرة، ومعنى الجان هو الأشياء المختفية. فيكون معنى الآية الكريمة لا يلوثها شئ ظاهر أو شئ خفي. هذه الفاكهة التى أُعدت لأهل الجنة لا يجري عليها قانون الدنيا من التعرض للتلوث سواء عن طريق تلوث ظاهري (تشوه - كسر – إلخ)، أو تلوث غير مرئي مثل العدوى الفطرية أو ما شابه.

لكي يستقيم المعنى بشكل صحيح يلزمنا فهم مدلول كلمة الخيام من خلال كتاب الله لكي نستطيع فهم التعبير القرآني ( مقصورات في الخيام).

مدلول كلمة الخيام

جذر كلمة خيام هو خيم، وكما جاء في قاموس اللغة تعني الإقامة والثبات، كذلك لفظ خيم يستخدمه الناس  في وصف تغطية شئ أو أن شئ لف شيئًا أخر. من خلال مقارنة الآية التي ذُكر فيها لفظ الخيام مع الآية المقابلة التي ذُكر فيها قاصرات الطرف؛ وحيث أن قاصرات الطرف تعني تأثيرًا مقصورًا على النفع- كما بينا- فإن مقصورات في الخيام تبدو أنها تصف تأثيرًا أقل للمتع المذكورة. كلمة خيم تعني ثبات وتدل على كسل أو خمول فيبدو أن الحور أو الأشياء المتماثلة تكون أقل تأثيرًا من مثيلاتها في الجنتين الأوليين التي أعدها الله لمن خاف مقامه سبحانه وتعالى.

هذا التقابل الواضح بين الحالة الأولى في الجنتين الأعلى وبين الحالة الثانية في الجنتين الأقل تأثيرًا يظهر بشكل واضح في التعبير القرآني الذي وصف عيون الماء في كلتا الحالتين. جاء التعبير القرآني يصف الماء بقوله فيهما عينان تجريان في حالة الجنتين الأوليين وهو تعبير عن الوفرة؛ بينما جاء التعبير القرآني يصف الماء بقوله فيهما عينان نضاختان في حالة الجنتين الأخريين، وهي الأقل وفرة. هكذا تجري المقابلات بين مشتملات الجنتين الأوليين وبين مشتملات الجنتين الأخريين. وعلى ذلك تكون قاصرات الطرف في الأولى تعني تأثير الأشياء مقصورًا على النفع، بينما في الثانية أقل تاثيرًا. لفظ خيام وجذر الكلمة يؤيد هذه الفرضية ويقويها، والتعبير القرآني الذي استخدم لفظ الحور بدون استخدام لفظ عين الذي دائما ما كان ملازمًا للفظ الحور يوحي بهذه الصفة الأقل في الجنتين الأخريين.

لفظ الخيام يعني إقامة، وثباتًا بالمعنى السلبي وهو الخمول أو الكسل أو شئ خامد.

لفظ الخيام الذي ذهب إليه المفسرون على أنه مكان للسكن وأن نساء أهل الجنة سوف يكون مقصورين في هذه الخيام هو تفسير مستمد من البيئة المحيطة لا يمثل الألفاظ في كتاب الله. هل الخيام كمكان للسكن متعة أو هل هذه البدائية تتناسب مع حال الجنة الذي وصفه ربنا بالتماثل و التجدد والاستمرارية. لماذا يصر الناس على أن كتاب الله جاء على مقاس أهل البداية وعلى فهمهم للمتعة بينما كتاب الله جاء للعالمين. هل جربتم حياة الخيام والتعامل مع الخيام التي يتخذها الناس سكني في البيئات البدائية؟

هل فيها متعة أم مشقة وعناء. الخيام  التي جاءت في كتاب الله ليست مكانًا للسكن كما وصف ربنا، وإنما هي وصف لحالة الحور الذي يصف التماثل في كل شئ، وفي هذه الحالة هو حالة الفاكهة، والتي يصبح تأثيرها أقل من تأثير الفواكه في الجنتين التي أعدها الله لمن خاف مقام ربه.

من ناحية أخرى لفظ الخيام لم يذكر في كتاب الله سوى مرة واحدة، ومن المعروف لدى العرب أن لفظ خيام يطلق على ما يسكن فيه، وهو نوع من الحياة البدائية، لكن كتاب الله وصف محل السكن بثلاثة أوصاف هي كما يلي:

وصف عام حيث وصفها ربنا بالمساكن، سواء في الدنيا أو في جنات الآخرة، جاء وصف مساكن الدنيا في سورة التوبة:

(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(سورة التوبة، آية 24).

في سورة التوبة أيضا عبر ربنا عن السكن في الجنات بلفظ مساكن كما نرى:

(وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(سورة التوبة، آية 72).

الوصف الثاني الذي وصف به ربنا ما يسكن فيه الناس هو وصف البيوت. وصف البيوت هو الوصف السائد في كتاب الله والذي يعبر تعبيرًا حقيقيًا عن أماكن الإيواء التي تؤوي قاطنيها.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون)(سورة النور، آية 61).

(وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ)(سورة الحجر، آية 82).

(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(سورة يونس، آية 87).

الوصف الثالث هو وصف المساكن الفارهة أو الأكثر قيمة وقد ذكرها ربنا في كتابه بالقصور:

(وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (سورة الأعراف، آية 74).

في الآية التالية تحديدًا ذكر ربنا فضله بأن يجعل لنبيه قصورًا وجنات تجري من تحتها الأنهار دليل على النعيم والرفاهية:

(تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا)(سورة الفرقان، آية 10).

من خلال تتبع الآيات الكريمة التي ذكرت المأوى والسكن للإنسان سواء في الدنيا والآخرة لا يمكن اعتبار الخيام بمفهومها البشري هي محل سكن في الجنة. الجنة التى تتميز بالكمال، والتمام، والتماثل، والتجدد والاستمرار تتخذ الخيام سكنًا، وبين أيدينا كتاب الله يذكر البيوت والقصور. لا شك أن الخيام بمفهومها البشري هي العودة للبدائية حتى العرب في القديم كانوا يستخدمون لفظ دار لوصف بيوتهم ولفظ بيت، إنما الخيام كوصف للسكن هو وصف بدائي لا يتلاءم مع الجنة وصفاتها وخصائصها التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه.

عدم القدرة على تحليل اللفظ وفهم جذر الكلمة (خيم) جعل العرب يلجأون إلى أقرب معنى لديهم على أن الخيام هي مكان السكن والإقامة. لن أكون مبالغًا إذا قلت أن وصف الخيام هذا عزز بشكل كبير فرضية أن الحور العين نساء أهل الجنة، لأن اللفظ يكاد لا يستعمل إلا في الخيام التي نعرفها، أو ما نسميها حاليًا بالمخيمات. عند تحليل لفظ خيم والذي وجدنا أنه يعني الإقامة والثبات أو الخمول، وجدنا أن المعنى مختلف تمامًا، وأن المقصود هو تأثير المتع فى الجنتين الأخريين يكون أقل منه في الجنتين الأوليين.

الآية الرابعة:

(وَحُورٌ عِينٌ)(سورة الواقعة، آية 22).

آيات سورة الواقعة من الآية 10 وحتى الآية 38 تصف حالة صنفين من أهل الجنة، (السابقون) و (أصحاب اليمين).

لا شك أن السابقين وأصحاب اليمين هم في الحقيقة رجال ونساء، لذلك لابد أن تكون المتع هنا للرجال والنساء دون تفريق. هذا النعيم الوارد في الآيات الكريمة لم يفرق بين النساء وبين الرجال سواء في السرر الموضونة  أو في الطعام والشراب والفاكهة، ولكن المفسرين عندما قالوا أن الحور العين هم نساء أهل الجنة هم من أوجدوا هذا الفرق، حيث خصصوا  الحور العين للرجال دون النساء.

من خلال مقابلة النعم المخصصة للسابقين مع النعم المخصصة لأصحاب اليمين، سنجد أن تعبير (الحور العين) يقابل (فرش مرفوعة)، ووصف هذه الفرش المرفوعة من حيث أن الله سبحانه وتعالى أنشأهن إنشاءً وجعلهن أبكارا، عربًا أترابا. يبدو لي أن الحور العين هنا تصف حالة عالية من الفرش أو الشئ الممهد (لفظ فرش يعني الشئ الممهد).  تعبير الحور العين هو في حد ذاته وصف يحمل خصائص التماثل والتجدد والاستمرار، ثم شبه ربنا هذا الحور العين باللؤلؤ المكنون تأكيدًا على صفة التماثل التي تتميز بها الأنواع الجيدة من اللؤلؤ.

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ(13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ(14) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ(15) مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ(16)يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ(17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ(18) لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ(19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ(20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ(21) وَحُورٌ عِينٌ(22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ(23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا(25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا(26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ(27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ(28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ(29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ(30) وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ(31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ(32) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ(33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ(34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً(35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا(36) عُرُبًا أَتْرَابًا(37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ((38))(سورة الرحمن، آيات 10-38).

من خلال فهم وصف الجنة الخاصة بأصحاب اليمين، وخصوصًا مسألة الفرش المرفوعة، سنجد أن الوصف يؤكد على هذا المعنى، وهو أن الله أنشأ هذه الفرش وجعلها أبكارا، أي ليست على مثال سبق مع فضيلة التجدد والاستمرار. قول الله سبحانه عرباً أي تفصح عن نفسها وهو دليل على التخلص من الشوائب بل أعلى درجات النقاوة. كذلك لفظ أترابا يعني متساويات وهو ما يقابل التماثل الذي هو من أهم خصائص الحور.

يبدو أن الحور العين في حالة أصحاب الجنة السابقين تماثل حالة الفرش المرفوعة في حالة أصحاب اليمين غير أن حالة الحور العين هي الحالة الأعلى درجة بينما الحالة الثانية هي الحالة الأقل والتي فصلها ربنا ووضحها بتفصيلات تتناسب تمامًا مع خصائص وصفات ألفاظ الحور العين ولكن بدرجة أقل، حيث لفظ حور عين ذاته يحمل خصائص التماثل في أعلى درجاته والتجدد والاستمرار، نجد أن الفرش المرفوعة احتاجت لبيان حالتها وتوضيحها من حيث النشأة والجعل وصفة الجمال.

يمكننا تلخيص ما توصلنا إليه من فهم الحور العين على أنها حالة من التماثل والتجدد والاستمرار تصف حالة الجنة وكل ما فيها، ولا يمكن فهمها بعيداً عن السياق الذي قيلت من خلاله. أما اعتبار الحور العين نساء أهل الجنة فهو وصف لا يمكننا إثباته بسبب عدة عوامل:

أولًا: مدلول اللفظ ومفهومه من خلال كتاب الله الذي لا يؤيد هذا.

 ثانيًا: أن الجنة للذكر والأنثى، وأى تخصيص للذكر بعيداً عن الأنثى أو العكس يجب أن يكون بدليل واضح وقوي من خلال كتاب الله وليس مجرد رؤية شخصية.

ملاحظة أخيرة: في قاموس اللغة وعند شرح جذر كلمة حور ورد أن الحور هو أن تسود العين كلها مثل الظباء والبقر وليس في بني آدم حور.

ثم يستطرد الكتاب ليقول إنما قيل للنساء حور العيون لأنهن يشبهن بالظباء والبقر. قال الأصمعي ما أدري ما الحور في العين ويقال حورت الثياب أي بيضتها. من هنا نجد أن من اللغة أيضا معنى الحور العين في وصف النساء كان غير مقنع لبعض القدماء ويحتاج لتكلف حتى يتم توفيقه مع لفظ النساء. أعلم جيدًا أن هناك تقريبًا إجماعًا على إن لفظ الحور العين يصف نساء أهل الجنة، ولعل الأماني هنا قد فعلت فعلها ولا أحد يريد أن يتخلى عن هكذا وصف بسهولة.

لكن دراسة محايدة وتحليل اللفظ بشكل منهجي لا يثبت أبدا أنها مقصورة على نساء أهل الجنة بفرض أن هناك نساء أهل الجنة وإنما هي حالة عامة تصف كينونية كل مشتملات الجنان ولا يمكن فهمها إلا من خلال السياق التي وردت فيه.

أخيرا نعرج قليلا على لفظ الحواريين أصحاب نبي الله عيسى، ومدلول هذا اللفظ من خلال جذر كلمة حور.

مدلول لفظ (الحواريون)

جاء لفظ الحواريين في كتاب الله  في أربعة مواضع كلها تصف أصحاب نبي الله عيسى كما يلي:

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(سورة آل عمران، آية 52).

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)(سورة المائدة، آية 111).

(إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(سورة المائدة، آية 112).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)(سورة الصف، آية 14).

ماذا قال المفسرون في مفهوم لفظ الحواريين؟

في تفسير الطبري جاء ما يلي حول مفهوم كلمة الحواريين التي ذكرت في سورة آل عمران.

(وأما (الحواريون)، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا (حواريين) فقال بعضهم: سموا بذلك لبياض ثيابهم. عن سعيد بن جبير قال: إنما سمُّوا (الحواريين)، ببياض ثيابهم. وقال آخرون: سموا بذلك: لأنهم كانوا قَصّارين يبيِّضون الثياب. عن ابن أبي نجيح، عن أبي أرطاة قال: «الحواريون»، الغسالون الذين يحوّرون الثياب، يغسلونها.

وقال آخرون: هم خاصّة الأنبياء وصفوتهم. عن روح بن القاسم، أن قتادة ذكرَ رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان من الحواريين. فقيل له: من الحواريُّون؟ قال: الذين تصلح لهم الخلافة) انتهى التفسير.

لا يمكن فهم مدلول كلمة الحوريين بدون فهم جذر الكلمة وفهم الفترة التي عاش فيها نبى الله عيسى. مسألة البياض وتبيض الثياب كنا قد بينا أن أصلها يرجع إلى الأصل الأول للكلمة وهو يدور دورة بمعنى تبييض الثياب أعادته إلى لونه الأصلي من خلال إدارته إلى أصله. الحواريون مشتقة من الحوار وهو الأخذ والرد كما بينا في بداية الفصل، و يبدو جليًا أن الحواريين سموا بهذا الاسم بسبب كثرة الحوار الذي كانوا يديرونه مع نبي الله عيسى، وتشهد على ذلك آيات الذكر الحكيم في سورة المائدة.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111)إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(112) قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ(113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ  فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ(115))(سورة المائدة، آيات 111-115).

الآيات الكريمة تسجل حوارًا بين أصحاب نبي الله عيسى وبين نبي الله عيسى نفسه بغية الوصول للحقيقة. إنهم يبحثون عن المعرفة من خلال السؤال، ومن خلال اختبار هذه المعرفة بشتى الوسائل. الحوار هو نقاش بين طرفين فيه أخذ ورد، وهذا ما ثبت من خلال الآيات الكريمة. من ناحية أخرى أثبتنا أن مرحلة ظهور الكلام والذي هو مرحلة متقدمة للتعبير عن الفكرة خلال فترة نبي الله عيسى ( الجزء الأول - جسدًا له خوار)، أو تسبقها بقليل، وهي فترة ظهور الفلاسفة كما سوف يأتي في (الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب). 

هذه الفترة على ما يبدو تميزت بالمتكلمين أصحاب القدرة العالية على الحوار وطرق إدارته، وذلك يتناسب تمامًا وصف الحواريين مع هذه المرحلة على أنهم منسوبين لقدرتهم على الحوار، وليسوا منسوبين إلى تبييض الثياب كما ذكر السابقون.

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكثر الصفحات مشاهدة