Translate

الفصل العاشر: إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ

الفصل العاشر: إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ

سورة من أعظم السور في كتاب الله، كنز لا يقدر بثمن، أقصر السور على الإطلاق، تلخص كل ما يمكن أن يقال في مجال التنمية البشرية، إنها سورة الكوثر وما أدراك ما الكوثر.

 (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3))(سورة الكوثر، آيات 1-3).

هل الكوثر نهر في الجنة خاص برسول الله ؟

مع مكانة رسول الله صلوات ربي عليه العظيمة ومنزلته الكريمة إلا أنه لا توجد آية واحدة صريحة في كتاب الله تنص على ضمان الجنة أو تبشر بالجنة لرسول الله. على العكس من ذلك فإن القرآن فيه ما ينفي فكرة ضمان الجنة لمن على قيد الحياة، ويجعلها خالصة في يد الله، لا أحد يدري على الإطلاق ما هو سائر في أمر الجنة أو النار إذ الأمر كله بيد الله.

هذا ليس تقليلًا من شأن رسول الله ومكانته التي لا ينكرها أحد، وشرف مكانة الأنبياء والمرسلين، ولكنه كتاب الله الذي بين أيدينا لم يرد فيه نص صريح يبشر أحدًا معينًا بالجنة وقت حياته. هناك فرق كبير بين ذكر صفات أهل الجنة أو أصحاب الجنة والتي وردت بغزارة في كتاب الله، وبين تعيين شخص محدد أنه من أهل الجنة والذي لم يرد أبدًا في كتاب الله .

يقول المفسرون لا ينبغي لأحد كائن من كان أن يشهد لشخص معين بالجنة أو بالنار إلا من شهد له القرآن أو رسول الله، والحقيقة أن رسول الله صلوات ربي عليه نزل عليه قرآن يعزز هذه الفرضية، وهي لا أحد يحق له أن يقول فلانًا من أهل الجنة أو فلانًا من أهل النار، لا أحد يعلم على وجه التحديد ما يصير إليه هذا الإنسان فيما يستقبل من حياته. الرسول نفسه يبلغ الرسالة التي أرسلها الله، وهي التي بين أيدينا (كتاب الله)، ولا يمكن قبول رواية شخص عن شخص عن شخص تعارض كتاب الله وخارج المنهج القرآني.

لك أن تتخيل أن آية كريمة في كتاب الله تخبر الرسول الكريم أن يقول ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، ثم يقف رسول الله يقول فلان في الجنة؟ قد يقول أحدهم أن تخصيص رسول الله بأشخاص بعينهم أنهم من أهل الجنة هو وحي من عند الله.

هذا الفرض لابد أن تكون له شواهد في كتاب الله، أما ولا، بل النقيض هو الواقع، فلا يمكن أن نقبل تبشير شخص معين في حياته بالجنة وهو ما زال يعمل ولم تنتهي حياته بعد، لقد حسم القرآن هذه الجدلية كما سوف نرى، وأن الكل بين يدي الله ولا يجب أن يأمن أحد مكر الله.

أما الأحاديث الكثيرة التي تقول إن رسول الله بشر فلانًا وفلانًا بالجنة، إن كان رسول الله قال هذا الكلام فيحتمل أن يكون على سبيل التمني والرجاء، ولا يمكن أن يكون على سبيل الضمان، لأن أمر الجنة والنار بيد الله وحده، وليس لنبي أو رسول أن يُدخل أحد الجنة أو النار، فما الأنبياء والمرسلون إلا نذر للناس يبينوا أكثر الذي يختلف فيه الناس، ثم مرجعنا جميعًا إلى الله.

آية واضحة في كتاب الله تؤيد فكرة عدم ضمان الجنة بيد أحد حتى رسول الله، فقبل أن نتجاوز هذه الآية الكريمة في كتاب الله ونقول على الله ما لا نعلم استنادًا على أقوال بشر قالوا سمعنا، يجب أن نفهم هذه الآية بشكل كامل وواضح دون أدنى تأثير عاطفي:

ما كنت بدعًا من الرسل، يقول الله سبحانه وتعالى:

(قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ)(سورة الأحقاف، آية 9).

الآية واضحة لدرجة أن أهل التأويل قالوا إن المقصود هو ما يدري رسول الله ما يفعل به ولا بهم يوم القيامة، ولكن بعض أهل التأويل حاول تأويل الآية بشكل يخالف معناها، حيث لم يستسيغوا هذا القول على رسول الله.

أورد بعض المفسرين تساؤلًا عجيبًا، إذ كيف يتبع الناس الرسول لو أن الرسول لا يدري ما يفعل به ولا بهم؟

هذا التساؤل يحمل خلطًا واضح، فالرسول الكريم يعلم جيدًا أن الكل سوف يصير إلى الله وعلى هذا أُرسل، ولكن لا يعلم الحكم يوم القيامة، وهو عين الرسالة إذ كل يعمل على مكانته. آيات القرآن جميعها تتحدث عن الحكم والحساب يوم القيامة، ومن ثم الجنة والنار بيد الله، لا لأحد كائن من كان أن يشرك الله في الحكم، ولا يمكن أن يكون هناك ضمان للجنة أو للنار إلا بعد الحساب ومن خلال الله نفسه سبحانه وتعالى.

الآية الكريمة متسقة تمامًا مع باقي الآيات الكريمة التي تتحدث عن أن الأمر كله بيد الله، ولا يوجد تعارض أبدًا إلا في عقول وأفهام بعض البشر. الفرق بين أن يعلم الرسول أن الكل صائر إلى الله وموقوفًا أمامه وبين أن يعلم رسول الله الحكم الصادر قبل يوم الحساب هو فرق جد خطير. الحالة الأولى هي عين الإيمان بالله، أما الحالة الثانية تدخل في حكم الله، والله يقول لا يشرك في حكمه أحدًا، تنزه ربنا عن ذلك وتنزه رسولنا الكريم أن يقول بغير ما أنزل الله.

(قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)(سورة الكهف، آية 26).

في نفس السياق، يقول الله سبحانه وتعالى إنه لا يطلع على غيبه أحدًا، ثم استثنى إلا من ارتضى من رسول، فإن قال أحد أن الله استثنى هنا الرسول، فيجوز أنه خصه بعلم الغيب وعلم من في الجنة ومن في النار، فنقول إن لفظ رسول تلزمه الرسالة، وهذا الغيب الذي يُطلع الله عليه الرسول لا بد أن يكون من ضمن ما أنزل الله، ومن ضمن حدود الرسالة، وهي القرآن الكريم المُفصل والتبيان لكل أمر. لم يدع القرآن المجال مفتوحًا لكل مدعي أن يقول ما يشاء بدون دليل وكأنها الأماني. من يقول أن الرسول اطلع على غيب غير ما في القرآن لابد أن يأتي بدليل من كتاب الله الذي فصل كل شئ وبين كل شئ، لا يحق لإنسان يؤمن بالله أن يقول على الله ما لا يعلم، فضلًا عن أن يقول ما يعارض كتاب الله صراحة.

(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27))(سورة الجن، الآيات 26-27).

هذه الآية الكريمة توضح أن كل الأمور الغيبية المذكورة في القرآن هي من الأمور التي ارتضى الله أن يطلع عليها رسله، لا يمكن أن تفهم هذه الآية إلا من خلال الآية التالية التي ينفي فيها رسول الله علم الغيب ويقرر أنه فقط نذير وبشير.

(قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ  وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(سورة الأعراف، آية 188).

الأمور الغيبية التي أطلع الله عليها رسله سوف نجد لها صدى في كتاب الله، وغالبًا ما كانت تختم هذه الآيات بقول الله سبحانه وتعالى (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك).

لقد حاول بعض الشُراح الهروب للأمام بالقول أن آية ما كنت بدعا من الرسل منسوخة بالآية الثانية في سورة الفتح.

(لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)(سورة الفتح، آية 2).

يقول المفسرون: بعدما نزلت آية ما كنت بدعًا من الرسل أنزل الله ليغفر لك الله ليبين لرسوله ماذا يفعل به. بغض النظر عن مسألة الناسخ والمنسوخ وبطلان القول تمامًا بأن آية في كتاب الله تبطل عمل آية أخرى؛ فهذا قول عظيم، لا يجوز على كلمات الله، كيف لكتاب محكم أن تكون فيه آيات تبطل عمل آيات أخرى دون ذكر ذلك صراحة، ويترك الأمر هكذا لكي من استعصى عليه فهم آية قال بنسخها، بالطبع موضوع النسخ موضوع طويل ومعقد ويحتاج لكتاب كامل، وخصوصًا أن الآيات التي قال بها البعض أنها منسوخة، قال آخرون أنها ليست كذلك، ولا يوجد إجماع على آية أنها منسوخة بمعنى بطلان حكمها.سوف نتعرض لموضوع النسخ في الجزء الثالث من الكتاب بشيء من التفصيل.

هذه الآية التي بين أيدينا لا تعني غفران الذنب المستقبلي، ولكن تعني غفران ذنوب ماضية حدثت بالفعل؛ سوف نوضح ذلك، ولكن بعد استعراض ما جاء في تفسير القرطبي.

(واختلف أهل التأويل في معنى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقيل: ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر بعدها، قاله مجاهد ونحوه قال الطبري وسفيان الثوري، قال الطبري: هو راجع إلى قوله تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح، إلى قوله توابًا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك، قبل الرسالة وما تأخر إلى وقت نزول هذه الآية) انتهى التفسير.

لو أن المقصود بهذه الآية الذنوب المستقبلية لكان التعبير بلفظ ما سيتقدم من ذنبك وليس ما تقدم، فهذه الآية لا نسخ فيها، وليس فيها ضمان بالجنة، ولكنها إكرام لرسول الله ومكانته العظيمة. إن كان أهل التفسير قالوا عن ما تقدم من ذنبك وما تأخر تعني ما تقدم من ذنبك قبل البعثة وما تأخر هو الذنوب حتى نزول الآية، إلا أن لي وجهة نظر حول هذه الآية الكريمة، الذنوب التي يقترفها الإنسان مختلفة ومتنوعة، فمنها ما يعلم ومنها ما لا يعلم، ومنها ما يدرك ومنها ما لا يدرك، فما يعلم ويدرك الإنسان من هذه الذنوب ثم يتبعها بالاستغفار والتوبة، تتأخر هذه الذنوب ولا تترك تأثيرها على حياة الإنسان، خصوصًا على قلبه.

أما الذنوب التي ندركها ونعلمها، أو حتى ندركها ونعلمها ولا يتبعها الاستغفار هي الذنوب التي تتقدم ويصبح لها تأثير.

الذنوب التي لا نعلم ربما والتي تمحوها الحسنات هي ما سوف تتأخر، وكأنها ذنوب غير نشطه، أما الذنوب التي تتقدم هي الذنوب التي لم يلحقها الاستغفار. كلا النوعان من الذنوب تحتاج لمغفرة الله سبحانه وتعالى حتى لا تؤثر على حياة الإنسان في الدنيا أو في الآخرة.

(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)(سورة هود، آية 114).

الحسنات يذهبن السيئات في الدنيا فلا تترك أثرها على قلبه وعلى حياته، أما في الآخرة فإن الله يغفر ما يشاء.

(وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)(سورة الرعد، آية 22).

(أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)(سورة القصص، آية 54).

معنى تقدموا واضح في الآية التالية في سورة البقرة، (أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(سورة البقرة، آية 110).

تقدموا تدل على ما تفعلوا لا على ما سوف تفعلوا، من خلال التفاسير ومن خلال مدلول الكلمة نجد أن التعبير القرآني ليغفر لك الله ما تقدم لا تعني أبدًا ما سوف تفعل أو ما هو قادم في حياتك وإنما أشياء فُعلت ومضت. هذا المدلول القرآني يتماشى تمامًا مع المنهج القرآني القائل بعدم ضمان أمر الجنة لإنسان طالما لم تنتهي حياته ولم  تُختم أعماله.

الآية الكريمة الآتية والتي يعتقد البعض أنها تحمل ضمان بالجنة لأشخاص بعينهم هي ليست كذلك، وإنما عن حالات إذا انطبقت على بشر فهم من أهل الجنة، وهذا التطابق لا يعلم طبيعته وحقيقته سوى الله سبحانه وتعالى. حال الذين أنعم الله عليهم مشروط بطاعة الله والرسول، ولا تحمل أي ضمانة لشخص بعينه لدخول الجنة.

(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِين وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)(سورة النساء، آية 69).

طاعة الرسول متعلقة باتباع الرسالة والتي حددها ربنا عندما قال يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك.

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(سورة المائدة، آية 67).

التوجيه الرباني شديد الوضوح في ربط وظيفة الرسول بتبليغ ما أنزل إليه من ربه، والتحذير الرباني قائم لكل رسول إذا لم يفعله فإنه لم يبلغ رسالة ربه. ونشهد شهادة حق ويقين أن رسول الله أدى وبلغ ما أنزل إليه من ربه. التحذير في الآية الكريمة إرشاد رباني كما طاعة الرسول توجيه رباني، ولكن هذا التوجيه وهذا الإرشاد بعيد عن ضمان الجنة، إذ الحكم لله فقط ولا يجوز القفز على هذا الحكم.

قد ينزعج البعض ويفهم ما لم نقصده بأننا نحاول القول إن رسول الله ليس في الجنة أو أننا نشكك في منزلة وفضل رسول الله التى لا ينكرها إلا جاهل. كل ما نود قوله إن الحكم في الآخرة لله وحده كما قال ربنا، وإن أي بشر مهما علت منزلته، حتى وإن كان رسول من الله، فهو واقع تحت هذا الحكم، ولا يمكن أن يكون شريكًا لله. والآية (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي) التي قمنا بتحليلها والوقوف عليها كانت دليلًا معتبرًا على ما ذهبنا إليه.

اعتقادنا أن أنبياء الله ورسله هم هداة البشرية ومصابيحها، وهم أهل الجنة. إنه الفرق بين الاعتقاد والإيمان من جهة وبين التحليل والقراءة من جهة أخرى. لو سألتني هل رسل الله في الجنة؟ سأقول لا شك أن رسل الله في الجنة، ولكن لو سألتني هل فلان رسول الله في الجنة؟ ستكون الإجابة منقسمة إلى جزئين: بالطبع إيماني واعتقادي أنه في الجنة، ولكن لا أستطيع أن أصدر الحكم إذا لم يصدره الله صراحة من باب قول ما ليس لي. فروق طفيفة للغاية يجب أن تفهم في إطار علمي بحثي الهدف الرئيس منها تخليص المفهوم الإلهي من أي أقوال شركية نقولها بحسن نية دون الالتفات إلى خطورتها إذ نجعل من الرسول أو النبي شريكًا لله في الحكم وهو في الحقيقة واقع تحت حكم الله بنص كتاب الله ولا يدري الرسول نفسه ما يفعل به ولا بالآخرين.

لكن قطعًا هو يعرف أن الأمر بيد الله، وأن الحكم لله، وأنه لا شفاعة لأحد إلا بإذن الله. هذه الأمور علمها عند الله، ولم يأتِ التصريح بشيء منها في القرآن، لذلك نقف على كتاب الله، ولا نتعداه خوفًا ورجاءً ومعرفة بقدر الله.

الكوثر

إذا كان الكوثر ليس نهرًا في الجنة فماذا يكون الكوثر؟

لاحظت أن كثير ممن قالوا أن الكوثر نهر في الجنة  وصفوا هذا النهر، وكأنهم شاهدون عليه،  رغم أن القرآن الكريم لم يصرح بشيء كهذا.

من المفترض أن أي حديث عن أمر ما في الدنيا أن يكون متبوعًا بالدليل، فما بالكم بالحديث عن أمور غيبية لا يعلمها إلا الله. لكي نقبل حديثًا عن أمور غيبية لابد أن يكون عالم الغيب هو من أشار إليه بدليل واضح وصريح. بعض التفاسير قالت أن الكوثر هو الخير الكثير، وهذا التأويل من وجهة نظري هو أقرب التفاسير إلى أصل الكوثر كما سوف نرى.

أصل كلمة الكوثر في اللغة هو كَثُر، وتعني الوفرة أو الزيادة، وكلمة أعطيناك فهو خطاب من الله عز وجل للإنسان بصفة عام، إذ لا يوجد تخصيص يدل على إن هذا الخطاب لرسول الله أو حتى للمؤمنين، مثال ذلك كلمة اقرأ هي أمر عام للإنسان، والأمثلة كثيرة من الآيات في كتاب الله التي ورد فيها اللفظ متصل بكاف المخاطب.

(أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ(8))(سورة الانفطار، الآيات 6-8).

كذلك الخطاب بلفظ أدراك موجه للإنسان بصفة عامة.

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ)(سورة الحاقة، آية 3).

إذا لم يكن الخطاب مخصصًا فيجب حمله على العموم، وخصوصًا إذا كان سياق الآيات يدل على ذلك، والسورة توجيه عام لم ينتهِ بوفاة الرسول الكريم، ولكنها عاملة إلى يوم الدين. الخطاب هنا موجه لكل إنسان، بما في ذلك رسول الله في حياته صلوات ربي عليه. هذا الخطاب يعني أن كل إنسان أُعطي كوثرًا أي وفرة وزيادة ما.

الناس في الحالة العادية وبصفة عامة متوسطون، أي يتمحور الإنسان حول معدل متوسط في جميع مناحي حياته، لكن كل إنسان يملك زيادة أو وفرة في شئ ما عن الآخرين، وهو ما يسمى بالموهبة أو التفرد في عمل ما بشكل متميز.

الكوثر عطية الله وهبته لكل إنسان، بحيث يصبح متميزًا في أمر ما عن الآخرين. الله سبحانه وتعالى يخاطب الإنسان، أي إنسان بقوله إنا أعطيناك الكوثر.  إنها كلمات الله موجهة إليك أنت بالتحديد، كل من يقرأ هذه الآيات هو يقرأ كلمات الله إليه، فاستمع لربك وهو يقول لك إنا أعطيناك الكوثر؛ لقد حباك الله بكثرة في شئ ما زيادة عن الآخرين، فكيف نستغل هذه الميزة وهذه الزيادة التي وهبها الله لكل واحد منا.   الإجابة جاءت سريعًا ومن خلال  الآية التالية:

الآية الثانية: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)

تمحورت التفاسير حول هذه الآية على أن المقصود بالآية أقم الصلاة والذبح يوم الحج.

ليكن معلومًا أن الصلاة الشعائرية جاءت في كتاب الله متبوعة بلفظ أقم، لتدل على إقامة الصلاة، أما الألفاظ التي لم تأتِ مسبوقة بفعل أقم فلها تأويل آخر، تعني المداومة والتواصل، وهذا ما يحتاج لفصل كامل لبيان أفعال صلى بدون فعل أقم، بشكل بسيط ومختصر.

فعل صلى ومن خلال مدلول الكلمة في كتاب الله نجد أنها تعني المداومة على شئ ما، من ذلك معنى يصلى النار أي يدوم عليها.

ولتمام المعنى لابد أن نفهم مدلول النحر، وماذا يعني.

النحر في اللغة هي نحر الإنسان، وأصل الكلمة كما جاء في قاموس اللغة النون والحاء والراء، تعني البزل (بحرف الزاي) (الشدة والقوة)، وجاء في قاموس اللغة معنى ينحر العلم نحرًا تعني قتلت هذا الشئ علمًا. من هنا نجد لفظ أنحر هو الأقرب لمعنى أبذل قصار جهدك. 

فيكون تأويل الآية الكريمة (فصل لربك وانحر) داوم على هذا الشئ الذي أعطاك الله، وابذل قصارى جهدك.

إنه توجيه إلهي، ما أحكمه حين يقول للإنسان أنه يملك كنزًا خاصًا به، من أجل استخراج هذا الكنز السمين لابد من مداومة العمل وبذل أقصى ما يمكن من جهد. النحر هنا لا يعنى الذبح، وخصوصًا أن لفظ الذبح قد ذكر في كتاب الله صراحة:

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(سورة المائدة، آية 3).

الآية الثالثة: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)، جاء في تفسير الطبري ما يلي: «وقوله «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ»، يعني بقوله جل ثناؤه: (إِنَّ شَانِئَكَ) إن مبغضك يا محمد وعدوك (هُوَ الأبْتَرُ)، يعني بالأبتر الأقلّ والأذلّ المنقطع دابره، الذي لا عقب له). انتهى التفسير.

أصل كلمة شانئك هو شين، وهو خلاف الزينة، يشين الشئ يعني أظهر عيوبه ليبدو منفرًا وغير مقبول، وكلمة يشين تحمل في طياتها بغضًا وكرهًا. فالشين هنا هو نوع من التركيز على العيوب والنواقص لغرض غير طيب.

الأبتر أصلها بتر، وتعني فصل شئ عن شئ، أو قطع أو عزل شئ عن شئ. الآية الكريمة تحمل توجيهًا وتحذيرًا، أما التوجيه فهناك أشخاص يتفرغون لانتقاص أصحاب الميزات وإظهار نواقصهم وعيوبهم. هذا الانتقاص مغلف بالكره في محاولة لإظهار العيوب والتركيز عليها، فلا تبتئس بما يصنعون، فمن يفعل ذلك هو في الحقيقة أبتر، أي معزول ومنفصل عن الموهبة والخير الكثير الذي وهبه الله إياه، نسي وترك ما وهبه الله وشغله شأن الناس عن شأنه. هذه الظاهرة يستطيع الإنسان إدراكها بكل سهولة حيث لا يفهم ولا يستطيع استيعاب قدرة شخص على التفرد والتميز إلا من هو بالفعل متميز ومتفرد في شئ ما، وأغلب من ينتقصون أصحاب المواهب والميزات هم في الحقيقة غير قادرين على فهم واستيعاب القدرات المتميزة للآخرين.

الإنسان غالبًا ما يقيس الأمور على مقياسه الشخصي، فإذا كان متواضع القدرات في أمر ما، فهو يتوقع من الآخرين نفس التواضع في القدرات، خصوصًا إذا كانوا كلهم مشتغلين ومتخصصين في نفس المجال. هذا الانتقاص ومحاولة التقليل من شأن أصحاب المواهب لا يخرج إلا من معدومي الكفاءة والموهبة، أو بالأحرى الذين لم يستطيعوا إيجاد ميزتهم ولم يعملوا بجد عليها حتى تؤتي ثمارها.

هذه السورة العظيمة تثير في الإنسان الطموح وتوقد الأمل حتى يدرك الإنسان أنه متميز في شئ عن الآخرين. مهما استصغر الإنسان نفسه، ومهما أحاط به مجتمع أبتر فإن الله يوحي إليه من خلال هذا الكتاب العظيم أنه متميز وليس مجرد رقم.

إنه وعد الله للإنسان، ومن أصدق من الله وعدا، فهل نؤمن حقًا أننا نمتلك شيئا ثمينًا لا يملكه غيرنا. التطبيق العملي للإيمان بهذه السورة العظيمة هو تشمير السواعد والبحث داخل نفوسنا عن هذا الكوثر. قد يكون مختبئا لا يكاد يبين، قد تكون هناك عوامل كثيرة أطفأت وردمت هذا الكوثر داخلنا، قد يكون مدرسًا، أو صديقًا، أو قريبًا أو حتى ظرفًا لا دخل لنا فيه قد هدم وكسر هذا الكوثر، واعتقدنا أننا لا نملك أي ميزة.

ها هي قراءة القرآن تعيدنا مرة أخرى لنقطة البداية وتنفخ الروح فينا مرة أخرى فهل نمتثل لأمر الله سبحانه وتعالى إذ يقول

(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(سورة الأعراف، آية 204).

لابد أن نفهم أمره ومراده قدر طاقتنا، ونتيقن أنه بدون المداومة وبذل أقصى الجهد، لا يمكن أن نصل إلى هذه الميزة التي ميزنا الله بها وتلك الموهبة الفريدة التي منحنا إياها.

التوجيه الرباني الذي يدفعنا دفعا للبحث داخل نفوسنا والتوقف فوراً عن التنظير على الآخرين والإيمان أن لكل منا قدرات خاصة.

إن محاولة تتبع نواقص الغير أو محاولة إثبات أن الآخرين غير متميزين هي محاولة لها رد فعل سلبي على النفس، فسوف تشغلنا هذه المحاولات عن سبر أغوار نفوسنا، واكتشاف مكنونها والوصول إلى الكنز المخبئ داخلها.

لا يجب أبدا أن نعطي الفرصة لذلك الأبتر ينفث سمه في نفوسنا فتظلم النفوس ويصبح كوثرنا غورًا فلن نستطيع له طلبًا. الاتصال السليم بالخالق مع بذل قصارى الجهد هو الطريق الوحيد للوصول لهذا الكوثر، ومن ثم ازدهاره، ثم يؤتي أكله بإذن ربه. القيام بأي عمل بصورة أقل من الممكن لديك هو في الحقيقة إهدار لقيمة الهبة أو الكوثر التي منحك الله إياه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكثر الصفحات مشاهدة