الفصل الحادي عشر: أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ
كيف
يمكن للمعارف البدائية أن تؤثر سلبًا على فهم كتاب الله وكيف يمكن للنظرة الذكورية
أن تنحرف بتأويل آيات قرآنية لصالح طرف معين دون إدراك حقيقى لهذا الانحراف؟ إنها
قصة زواج رسول الله من زينب بنت جحش التي لم تستطع العقول فهمها من خلال كلمات
وألفاظ القرآن الكريم. فصالت وجالت خلال سيرة رسول الله بتفسيرات ورؤى لا يقبلها
عقل أو منطق على شخص عادي فما بالكم برسول الله.
رجل ذو وجاهة ومكانة اجتماعية، وينتمي لعائلة ذات مكانة
مرموقة، ولديه خادم أحسن إليه وعامله معاملة حسنة لدرجة أنه اعتبره ابنًا له. ذات
يوم جاء هذا الشاب يريد الزواج من إحدى قريبات الرجل الذي رباه، فرفضت أُسرة
الفتاة رفضًا قاطعًا، متعللة بالفارق الاجتماعي الكبير، وأن هذا الأمر قد يسبب لهم
حرجًا بالغًا، وكذلك رفضت الفتاة إذ رأت أنه لا يكافئها؛ لا شك أن الفتاة وأهلها
واقعون تحت ضغط مجتمعي رهيب يرفض هذا النوع من الزواج، وإن كانوا يتعاملون مع
الخادم على أنه ابن لهذا الرجل الكريم إلا أن الحقيقة التى يعرفها الجميع أنه ليس
ابنه، بل خادمه، فالتعامل برفق وكرم أخلاق شيء والزواج شيء آخر.
ما كان من هذا الرجل الكريم إلا أن أخذ على عاتقه مسألة
إقناع الفتاة وأهلها ليقبلوا زواج الفتاة من خادمه الذي يعده ابنه، لا سيما أن
الرجل يحمل أفكارًا ثورية عن المساواة والعدالة وإزالة الفروق بين البشر. بعد شد
وجذب وافقت الفتاة وأهلها على مضض إرضاء للرجل الكريم وطاعة لأمره.
ما هي إلا شهور قليلة وبدأت تدب الخلافات بين الزوجين، وبدأ
الزوج يسئ معاملة الزوجة بشكل واضح وجلي، ماذا يكون شعور الرجل الكريم الذي تدخل
لإتمام هذا الزواج وهو يرى إحدى قريباته ومن امتثلوا أمره وهي تعاني من هذا
الزواج؟ فى المقابل الزوج لا يكترث بذلك، بل ويريد أن يفارقها.
لا شك أنه سوف يوجه اللوم لنفسه، وهو على ذلك بين أمرين
أحلاهما مُر. الأمر الأول أن يطلب من خادمه مفارقتها، وهو الصواب، لما يرى من
استحالة الحياة بينهما، ولكنه يخشى حديث الناس ووقوع اللائمة عليه، أو أنه ينصح
الخادم باستمرار الحياة وأن يحسن المعاملة، مع ما يعلمه من المعاناة التي تسبب
فيها هذا الزواج للفتاة وصعوبة العيش بهذه الطريقة. إنه الضغط المجتمعي مرة اُخرى،
والذي يدفع هذا الرجل لقبول الأمر الواقع مع أن الصواب هو إنهاء هذه المعاناة
بالطلاق.
يحاول الرجل الكريم جاهدًا تجنب الطلاق، لما سوف يسببه هذا
الطلاق من ألم نفسي لا يُحتمل للفتاة أولًا، إذ كيف تقبل الزواج بهذه الطريقة
وتقدم من وجهة نظرها تنازلات ثم يتم تطليقها من هذا الفتى، والذي ما قبلته إلا من
أجل تدخل الرجل الكريم وهو في الأساس أحد أقربائها. كل المحاولات في إخفاء الطلاق
بائت بالفشل وحدث الطلاق. الآن توجد فتاة خارجة للتو من تجربة مريرة، كان الرجل
الكريم وهو أحد أقربائها سببًا مباشرًا فيها، وهي الآن تعاني نظرات مجتمع قاسية.
نسوة المدينة قالوا امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، فماذا ستقول النسوة عنها إذ
أنها تنازلت وتزوجت من فتى كان خادمًا لدى قريبها هذا، والفتى لم يحسن معاملتها بل
طلقها.
هذا السرد البسيط فقط لكي نستطيع فهم ملابسات الواقعة وظروف
الموقف بشكل بسيط دون الدخول في تعقيدات الماضي ومقاييسه.
زواج رسول الله صلوات ربي عليه من السيدة زينب ابنة عمته
والتي كانت زوجة زيد بن حارثة من أكثر المواضيع حساسية، وأكثرها إساءة لرسول الله،
وفيها من القول على رسول الله وعلى الله ما يندى له الجبين.
ادعاء أن المعاصرين أو الأقرب لعهد رسول الله هم أكثر فهمًا
لهذه القصة هو ادعاء باطل وخاطئ. القصة مليئة بالتفاعلات النفسية التي أخبر عنها
القرآن، ما كان لأحد أن يطلع عليها، ولا لأحد علم بها.
القرآن الكريم أشار إليها من خلال نظم الكلمات القرآنية
البديع، ليعطي صورة واضحة لما يمكن أن تكون عليه القصة، بعيدًا عن الخيالات
والتصورات الساذجة.
مثال صارخ على هذا التأويل المختلط بالمعارف الشخصية
والقياس المجتمعي الذي لم يأخذ في الاعتبار تفرد الرسول وأخلاقه الرفيعة التي
أهلته لتلقي الرسالة وأدائها بكل صدق وأمانته في التبليغ. لقد تمادى بعضهم بأن
ادعى وقال على الله ما لم يقوله ربنا، بحجة تأويل النص، وكأن الله هو شيخ قبيلة من
قبائلهم يسارع في تنفيذ رغبات نبيه على حساب الجميع. إنه قول لو يعلمون عظيم،
وتعاطي ساذج مع نصوص إلهية محكمة وبليغة، وتفتيش في نوايا وخفايا النفس بطريقة ما
أنزل الله بها من سلطان.
لقد خلف هذا التهاون كوارث لا حصر لها على هذه الأمة، فبرغم
أن القرآن الكريم تبيان وتفصيل لكل شيئ، إلا أن التفسيرات هي التي حلت محله وأصبحت
تعمل عمله. ما ذلك إلا بسبب خوف الناس من التعاطي مع كتاب الله، أو حتى محاولة فهم
فكرة ما، والبوح بها بعيدًا عن الإجماع.
هذا التمسك العجيب بروايات بشرية بحجة تبجيل رسول الله،
وأصحاب رسول الله، هو ما أساء حقًا لرسول الله وأصحابه. وسنرى ذلك واضحًا في الآية
التي تصف مشهد طلاق زيد ابن حارثة لزينب بنت جحش، ثم زواج رسول الله منها:
(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ
أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ
إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)(سورة
الأحزاب، آية 37).
ماذا أنتظر من شخص تربى وتعلم على قيم إنسانية عليا بعيدًا
عن الظن والهوى، ثم يقول له أحدهم في تفسير هذه الآية الكريمة ما معناه أن رسول
الله رغب في زواج زينب وهي متزوجة ممن في حكم ابنه، أو أن الله أبلغه أنه سوف
يتزوج من زينب، وهي بالفعل متزوجة من شخص تربى في حجر النبي وأنعم النبي عليه
لدرجة أنه اتخذه ابنًا له؟
قد يقول أحد الذين يشركون كلام الله بكلام البشر هل أنت
تنكر القرآن؟ أرد بكل ثقة وأقول أرفض الفهم المنحرف للقرآن ورؤية البعض الضيقة عن
كلام الله، وطالما أن هناك مكانًا لفهم أكثر اعتدالًا وسليم ومتسق مع كتاب الله،
فلا يعنيني من قال وما يقول ولما قال.
دارت أقوال المفسرين حول الآية الكريمة، حول معرفة ما دار
في نفس رسول الله، وكأن المتأول علم دواخل نفس الرسول الكريم ومكنونها، وحجتهم في
ذلك أن الآيات توضح ذلك. زعموا أن حب زينب وقع في قلب رسول الله فأحبها وكتم ذلك
حتى أظهره الله وتم طلاق زينب وتزوجها رسول الله بأمر من الله مباشر.
الحقيقة ما قاله المفسرون بعيد كل البعد عن كتاب الله، وعن
أبعاد القصة، وعن شخصية الرسول العظيم الذي أعطى القرآن ملامح غاية في الدقة عنها،
ولا يمكن وضع تلك الأقوال المشوهة على رسول الله إلا في خانة وجهة النظر الشخصية
للمفسر، والتي تعكس تفاعله هو وشخصيته وثقافة مجتمعه. حتى من قرأوا تلك التفسيرات
وحاولوا الدفاع عن رسول الله بالقول هو بشر، وهذه الأمور جائزة في حق البشر ودليل
صدق القرآن أنه لم يخفي تلك الأمور، نعم هو بشر متصف بالصدق والأمانة والخلق
العظيم، وهذا الفعل لا يستقيم مع شخص عادي فكيف يستقيم مع شخص بهذه المواصفات.
في محاولة لفهم هذه الإشكالية يقول بعضهم إن الله أخبره
بأنه سوف يتزوج زينب، ولذلك هو أخفى هذا الخبر.
ما هذا؟ من قال إن الله أخبر نبيه أنه سوف يتزوج زينب وهي ما تزال زوجة رجل
آخر؟ من الذي يستطيع قول شيء لم يقله الله ولم ينزله في كتابه؟ ما هذه الاستهانة،
والقول على الله بما لا يعلمون؟ كيف يقول الله هذا القول وهو القائل في كتابه
(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا
مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(سورة طه، آية 131).
كتاب الله وكلام الله وآيات الله ليس فيها تناقض، وإنما
يأتي التناقض من الفهم البشري وقدرته على الاستيعاب. مع اختلافي حول تفسير آية
(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ)، حيث يقول المفسرون أن المقصود بها رسول الله،
ووجهة نظري أن المقصود بها كل إنسان ومن ضمنهم رسول الله، أي أنها ليست مخصصة
لرسول الله، ومع ذلك لا بأس من الاستشهاد بأقوال المفسرين حول هذه الآية الكريمة
لفهم هذا التوجيه الرباني الكريم.
أهل التفسير فسروا هذه الآية على أن النهي لرسول الله، لا
يمد عينيه لرزق أحد. ويقول السعدي في تفسيره (أي: لا تمد عينيك معجبًا، ولا تكرر
النظر مستحسنًا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة،
والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كله زهرة الحياة
الدنيا).
هذا هو كلام الله وتوجيه الله، فكيف يقول قائل إن الله قال
لنبيه أنه سوف يتزوج زوجة رجل آخر وهي ما تزال زوجته. أو أن الله أوقع بغض زينب في
قلب زيد لما علم من رغبة رسول الله فيها؛ تعالى ربنا عما يقول هؤلاء علوًا كبيرًا.
عندما يقول أحد المستشرقين إن هذا سلوكًا منحرفًا، ولا
ينسجم مع الصفات التي تصفون بها رسول الله بماذا تردون عليه؟ عندما يقول أحدهم أن
الأمر يشبه المؤامرة على رجل متزوج وزوجته، لماذا يتصايحون؟
لقد أساء الناقلون بدون وعي لرسول الله قبل أن يسئ إليه
الآخرون، وتورطوا في تأويل متسرع سئ الظن مع وجود الظن الحسن، بل الأدلة القوية
على أن الأمور ما سارت هكذا.
هذه الآية الكريمة تجسد معركة بين الأفكار الموروثة السائدة
وقتها، وبين الأفكار الثورية التي يحملها الإسلام، والتي لم يعهدها العرب بل
والإنسانية من قبل؛ أو قل إن شئت معركة نفسية حامية الوطيس بين العادة والعبادة.
لقد كان دور رسول الله محددًا، وهو هدم الموروث الجاهلي
وإقامة الحق، وكسر العادة لصالح العبادة. مع مكانة رسول الله العظيمة إلا أن آثار
هذه المعركة بدت واضحة من خلال الآية الكريمة، عندما عاتبه ربه بقوله (وَتَخْشَى
النَّاسَ) الموروث القبلي والعرف الاجتماعي، (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)
الأحق هو اتباع الحق، ولو كره الكارهون ولو كان على غير هوى المجتمع. الرسول لم
يأت ليوافق هوى الناس، وإنما جاء برسالة تضبط وتقنن وتعدل سلوك الناس.
هناك جانب من شخصية رسول الله أخبرنا عنه القرآن الكريم من
خلال سلوكه وتصرفه في بعض المواقف، حيث يظهر الجانب البشري من خلال مراعاة الناس
وردود أفعالهم، وما ذلك إلا انعكاس مباشر لأخلاقه المتمثلة في الحياء، والرفق
واللين، والحرص على الهداية، ورغبة صادقة لتقويم الاعوجاج. هذا اللين وهذا الرفق
لم يكن مطلوبًا في بعض المواقف، لذلك نجد أن ربه عاتبه في أكثر من موضع على هذا
التصرف وهذا السلوك.
المشهد الأول: الذي يدلنا كيف أن صدق رسول الله وحرصه على
نشر وقوة الدعوة جعلته يعبس في وجه الرجل الذي جاءه وهو يحدث سادة قريش، فأنزل
الله قرآنا يتلى يعاتب فيه رسوله، ويوجهه إلى أن مقام الرسالة لا يلزمه بطلب هداية
أقوام بعينهم، وإنما عليه أن يبلغ ويذكر فقط دون أي اعتبار لأوزان الناس.
(عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَن جَاءَهُ
الْأَعْمَى(2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3) أَوْ يَذَّكَّرُ
فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى(4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى(5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى(6)وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا
يَزَّكَّى(7) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى(8) وَهُوَ يَخْشَى(9) فَأَنتَ عَنْهُ
تَلَهَّى(10) كَلَّا إِنَّهَا
تَذْكِرَةٌ(11) فَمَن شَاءَ ذَكَرَه(12))(سورة عبس، الآيات 1-12).
المشهد الثاني: وهو في سورة الإسراء، عندما طلب المشركون من
رسول الله التنازل قليلًا وحرصًا منه كاد أن يفعل، فجاء القرآن لينبه رسوله أن هذا
ليس له وأن عليه الذكرى فقط.
(وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ
خَلِيلًا(73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ
شَيْئًا قَلِيلًا(74))(سورة الإسراء، آيات 73-74).
هذا الحرص الشديد من رسول الله هو ما يدفعه حتى إلى إيذاء
نفسه، كما في سورة الشعراء وسورة يس عندما قال له ربه لعلك باخع نفسك، أي مهلك
نفسك من أجل أن يؤمن الناس.
(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(سورة الشعراء، آية 3).
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى
آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)(سورة الكهف، آية 6).
الآية الكريمة التي تتحدث عن زيد وزواجه، وعتاب رسول الله
هي أيضًا من هذا النوع من العتاب، حيث خشي الرسول ردة فعل الناس في موقف ما كان له
أن يحسب فيه للناس حساب.
رسول الله ليس بدعًا من الرسل، وإنما بشر يعتريه ما يعتري
البشر، وها هو رسول الله موسى يكلمه الله ويقول له اذهب إلى فرعون إنه طغى، فكان
جواب نبي الله إنى أخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى. كيف لرسول الله أن يخاف والله
هو الذي يكلمه؟ إنه الجانب البشري الذي لا يمكن تجاوزه.
(اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا
تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا
لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا
إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لَا
تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46))(سورة طه، آيات 42-46).
هذه الشخصية الكريمة الحريصة على هداية الناس وردهم الجميل،
وهذا الرفق واللين لدرجة تصل إلى حد إيذاء نفسه، هل يمكن أن يتسبب في الأذى النفسي
لمن اتخذه ابنًا، وهل يمكن أن يثير لغطًا في المجتمع الجديد بهكذا قصة نسجها حوله
المفسرون؟
تعالوا إلى فهم الآية من خلال كتاب الله، وقبل أن نشرع في
فهم الآية، يجب أن نلقي نظرة سريعة على المجتمع والعصر الذي حدثت فيه الحادثة حتى
نفهم التداخلات النفسية والضغوط المجتمعية التي عاشها رسول الله، ونزل القرآن
ليخلص البشرية منها.
الطرف الأول في القصة هو زيد بن حارثة بن شرحبيل، من قبيلة
بني قضاعة، وقع في الأسر وهو في الثامنة من عمره، واشتراه حكيم بن حزام لخديجة بنت
خويلد رضي الله عنها، التي أهدته لرسول الله صلوات ربي عليه. زيد في عرف المجتمع
وقتها كان مملوكًا لرسول الله، فأكرمه رسول الله وأعتقه، ثم اتخذه ابنًا له، حتى
كان يقال زيد ابن محمد. مع كل هذه المكارم التي وهبها رسول الله لزيد بن حارثة إلا
أن ذلك لم يغير من الواقع المجتمعي الشيء الكثير، نعم زيد نال مكانة ومنزلة رفيعة
بتكريم رسول الله له، ولكن عندما يتعلق الأمر بالزواج فإن الموروث القبلي والواقع
المجتمعي هو من سوف يتكلم. أنا مستعد لقبول كل التغيرات الاجتماعية النبيلة كفكرة،
ولكن تطبيق هذه الفكرة على واقعي هو أمر فيه نظر.
الطرف الثاني زينب بنت جحش القرشية، ابنة عمة رسول الله،
أمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، من أشراف قريش، رغب زيد في الزواج من زينب بنت
جحش على غير المعتاد في هذا المجتمع القبلي المفاخر بأصوله وتاريخه وعراقة أفراده
إلى أقصى درجة ممكنة، حتى أن أشعارهم وخطبهم تفيض بالفخر وتعظيم شأن القبيلة، ورفع
ذكر النسب عاليًا، وتعتبره شرفًا لا يضاهيه شرف. نعم جاء الإسلام ليهدم كل مجد
جاهلي وكل فخر مزور، ولكن الأمر ليس بهذه السهولة كما ذكرنا، قبول الفكرة سهل، لكن
التطبيق العملي من أصعب ما يكون.
هل تدري ماذا يعني كسر العادة المتأصلة في القبيلة بهذه
الحدة، وهذا العنف وهذه السرعة؟ وما هو الاستعداد النفسي المطلوب لقبول المبدأ
الجديد، والتعايش معه في مجتمع لا يملك شيئًا يفاخر به سوى النسب والقبيلة؟
هذا بالفعل ما حدث مع زينب بنت جحش، عندما أراد رسول الله
أن يخطبها لزيد؛ تخبرنا الروايات أن زينب رفضت في البداية بسبب الفروق الاجتماعية
الواضحة، الرفض مبرر جدًا، ولا أحد يستطيع لوم زينب، فما الذي يدفعها للزواج من
خادم رسول الله حتى وإن اتخذه الرسول ابنًا له. إن كان هذا التبني تكريمًا له، لكن
لا يلغي الحقيقة التي يعرفها الناس من أنه مولى رسول الله.
موقف رسول الله كما تبين الروايات أنه حاول إقناع زينب ابنة
عمته بالزواج من زيد، وهذا أيضًا إكرامًا لزيد، ومن النعم التي أنعم بها الرسول
على زيد. بالنهاية ترضخ زينب من أجل وساطة رسول الله، وتقبل بالزواج. يبدو من
الآية الكريمة أن الزواج لم يكن زواجًا سعيدًا أبدًا.
في بداية الآية الكريمة يخبرنا ربنا أنه أنعم على زيد، وهذه
النعم يعلمها الله فلم يخبرنا بها ربنا صراحة، فلعلها الهداية كما قال التفسير،
ولعلها خبيئة خبأها الله له، أما ما أنعم به رسول الله على زيد فقد ذكرنا ما وصلنا
منه، وهو العتق والتربية واتخاذه ابنًا، وتزويجه من ابنة عمته عن طريق التدخل
المباشر، محاولًا كسر العادات الموروثة والثقافة القبلية لصالح دين الله والمبادئ
القرآنية السامية.
كم من الجهد والمثابرة تحتاجه زينب بنت جحش لكي تتغلب على القوى
المجتمعية التي ترفض مثل هذا الزواج، لقد بدا ذلك واضحًا عندما رفضت زينب عرض
الزواج في المرة الأولى بحجة عدم التكافؤ، محكومة بنظرة المجتمع والقبيلة. يحاول
رسول الله إقناع ابنة عمته بالزواج ويزكي زيدًا حتى تلين زينب وتوافق بالنهاية بعد
توسط رسول الله إكرامًا لمكانته.
لا شك أنها تضحية ثمينة تلك التي أقدمت عليها زينب، كسر
السائد في المجتمعات الساكنة غير المتجددة لا يقدر عليه إلا العظماء أصحاب النفوس
الراقية، إنه قرار بمواجهة مجتمع قبلي بامتياز لصالح مبادئ وقيم غاية في الرقي
والإنسانية، قرار قد يجعل منها محور حديث نسوة المدينة، واستنكار أقرانها بل
وشماتة مبغضيها.
بعد هذه الخطوة الجسورة، وبمباركة رسول الله ورضائه وبعد
شهور قليلة تدب الخلافات بين الزوجين، وتستحيل الحياة إلى خلاف وكدر. رسول الله
يتابع ما يحدث، زيد في حكم ابنه، وزينب ابنة عمته، ولولاه ما وافقت على هذا
الزواج، يرى المعاناة واضحة، والنصيب الأكبر يقع على زيد بنص القرآن لا كما يقول
المفسرون إن زينب لم تطيقه بعد الزواج. قد يكون صحيحًا أن زينب لم تقبل زواج زيد
في البداية بسهولة بسبب الإرث القبلي والضغط المجتمعي، ولكن بعد الزواج الأمر
اختلف تمامًا كما يحكي القرآن.
الآية الكريمة تروي لنا ماذا قال رسول الله لزيد عندما جاءه
شاكيًا بل راغبًا في المفارقة، قال له رسول الله (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ
وَاتَّقِ اللَّهَ)، أمسك عليك زوجك تعني أن زيدًا يريد الطلاق، واتق الله تعني أن
رسول الله رأى من زيد ما جعله يقول له اتق الله، أي أن زيدًا في علاقته بزينب لا
يتقي الله أو يتجاوز فيها.
غفل المفسرون عن جملة اتق الله، وهي الجملة التي تحل
الإشكالية وتوضح ما الذي كان يخفيه رسول الله ثم الله أظهره، لم يتساءل أحدهم ما
الذي يدفع رسول الله أن يقول لزيد اتق الله؟
رسول الله لا يقول ذلك إلا إذا رأى ما يبرر ذلك القول. يبدو جليًا أن زيدًا تجاوز في حق زينب وهذا
التجاوز لا يرضي رسول الله.
الجزئية الثانية التي أحدثت ارتباكًا واضحًا في فهم
المفسرين هي (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ). رغم قول المفسرين أن
ما يخفيه رسول الله هو حب زينب، وهذا القول لا دليل عليه سوى الأماني والخيالات
النفسية، إلا أننا سوف نضع هذا القول من ضمن الاحتمالات الواردة لفهم الآية.
بحسب الآية الكريمة ما أظهره الله شيئين، كما وضحت الآية
الكريمة أولًا طلاق زيد من زينب، ثانيًا زواج الرسول من زينب. ذهب فريق المفسرين
إلى أن ما أخفاه الرسول في نفسه هو حب زينب وهذا ما لا دليل عليه، إذ أنه حالة
نفسية لا يمكن الاطلاع عليها ولا يوجد ما يرجح هذا الاحتمال، الفريق الآخر ذهب إلى
أن ما يخفيه رسول الله هو زواجه من زينب، إذ أن الله أخبره بذلك على حد زعمهم. لا
يوجد أي دليل على أن الله أخبر نبيه أنه سوف يتزوج زينب وهي متزوجة رجل آخر، بل
القرآن يعارض ذلك صراحة كما بينا في سورة طه.
(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا
مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(سورة طه، آية 131).
ثم أن زواج زينب من الرسول كان وقتها أمر غيبي ورسول الله
لا يعلم الغيب، كما قال الله (قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ
الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(الأعراف، آية 188).
ومن يقول إن الله أطلعه على الغيب فلابد أن يسوق الدليل
الواضح القطعي دون أي لبس أمام هذه الآية، أما القول إن الله أطلعه على زواجه من
زينب دون أي دليل فهو افتراء على الله، وقول ما أنزل الله به من سلطان، بل يدحضه
القرآن نفسه.
يبقى لدينا الأمر الثاني الذي أظهره الله، وهو طلاق زينب من
زيد، فهل يمكن لرسول الله أن يخشى الناس في أمر كهذا؟ الإجابة بكل وضوح نعم، عندما
يكون هو السبب المباشر في زواج زينب من زيد ثم يرى معاناة زينب وسوء معاملة زيد
لها ورغبة زيد في المفارقة، ثم يقول له أمسك عليك زوجك واتق الله، هو هنا يتحسب
الناس ويخشى مقالة الناس أن زيدًا طلق زينب وهي ممن هي وزيد بالنهاية مولى رسول
الله. لك أن تتخيل كم الحرج الذي يمكن أن يسببه هذا الطلاق لزينب من ناحية إذا
طلقها زيد الذي يخدم رسول الله ابن خالها، وكذلك الحرج الذي سوف يسببه هذا الطلاق
لرسول الله من أنه كان السبب المباشر في هذا الزواج. من يدرك الواقع الاجتماعي
والبيئة التي حدثت فيها هذه الحادثة يعلم أن طلاقًا كهذا بين من يدعوه رسول الله
ابنه وقد كان مملوكًا، وبين ابنة عمته فتاة قريش، أمرًا جللًا وحدثًا ليس هين على
زينب وعلى رسول الله.
يتضح لنا من سياق الآية الكريمة، أن ما كان رسول الله يخفيه
هو رغبته في طلاقها، حتى تتخلص من تلك المعاناة ولكنه يخشى مقالة الناس، فنبهه ربه
أن الله أحق أن تخشاه، إذ أن أمر الطلاق في هذه الحالة لا مناص منه، وليس شيئا
مشينًا حتى يخشى الناس فيه. إنه توجه إلهي حكيم في اتباع الحق ووزن الأمور بميزان
الحكمة، لما فيه مصلحة الأطراف المتضررة دون أي اعتبار لعادات أو موروثات مجتمعية
بالية ما أنزل الله بها من سلطان.
عبارة فلما قضى زيد منها وطرا تحمل أيضًا ملمحًا هامًا،
وجزءًا تكميليًا يبين كيف كانت العلاقة بين زيد وزينب. كلمة وطر أصلها كما في
قاموس اللغة الحاجة والنهم، ولكن من خلال تقارب صوت لفظ الوتر، و وتر العود معروف
مع صوت وطر، ووتر العود معروف، ومن خلال مدلول الكلمة في القرآن نجد أن معنى الوطر
تحمل في طياتها الرابطة التي تربط شيئين.
أما كلمة قضى تعني إنهاء وإتمام أمر ما. وعلى ذلك يكون معنى
قضى وطرا أي أنهى، أي علاقة أو رابطة بينهما، بمعنى لا سبيل لرجوع كليهما للآخر
مرة أخرى. قطع الروابط أشمل وأعم من كلمة حاجاته ونهمه، فقد يقضي الإنسان حاجته
ونهمه ولكن تظل تربطه بالطرف الآخر علاقة تُبقى كليهما في دائرة اهتمام الآخر،
ولكن معنى الوطر بالرابطة التي تربط الشيئين أي أن زيدًا أنهى كل رابطة بينه وبين
زينب. هذه الإرادة التي توافرت لدى زيد كما يقص القرآن وجعلته هو الذي ينهي هذه
العلاقة تزيد بالطبع الجرح النفسي لدى ابنة عمة رسول الله ويزداد همها همًا آخرًا.
سؤال يطرح نفسه إذا كان ذلك كذلك وأن رسول الله ما أخفى
حبها وما سعى لزواجها، لماذا تزوجها رسول الله؟
القرآن الكريم ليس كلامًا من عند محمد، وإنما هو كلام رب
العالمين، والآية الكريمة تقول إن الله زوج رسوله من زينب، ولا تشير إلى أي رغبة
للرسول في هذا الزواج، فالأمر صريح وهو (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا
زَوَّجْنَاكَهَا)، ثم علل ربنا هذا الزواج لئلا يكون للناس حجة في أزواج أدعيائهم.
تزويج السيدة زينب من رسول الله بأمر مباشر من الله لا شك
أنه أمر عظيم وتكريم هي له أهل، ولعل زواجها من رسول الله هو المكافأة التي نالتها
على التضحية الغالية التي بذلتها في كسر السائد في المجتمع القبلي الذي يضع حدودًا
وفوارقًا لا يمكن تخطيها بين الناس بعضهم البعض. لا شك أن قبول زينب هذا الزواج
لهو تحول لا مثيل له في المجتمع نحو المساواة ورفض العنصرية تحت راية لا إله إلا
الله. بما أن رسول الله كان طرفًا مباشرًا في هذه القصة، وهو بالأساس ابن خالها،
فجاء الأمر الإلهي بزواجها من رسول الله، أعلى وسام يمكن أن تناله. كان هذا الزواج
تكريمًا لزينب للدور الذي قامت به طاعة لله ولرسوله، وفي نفس الوقت كان زواجها
إيذانًا بقطع علاقة التبني والتي كانت تقوم على أساس زائف، وهي اعتبار الابن
بالتبني هو ابن بيولوجي، وهذا على غير الحقيقة.
كما كان زواج زينب نقطة تحول في عادات القبيلة الراسخة تحت
تأثير المنهج الرباني، صار طلاقها ثم زواجها من رسول الله نقطة تحول أخرى في إبطال
عادة زائفة، إنه التشريف الأسمى من قبل ربنا لزينب بعد تضحية عظيمة قدمتها وتجربة
رائدة عاشتها.
لقد جسدت زينب حركة ثورية بامتياز، وكسرًا لعادة عتيقة ما
كان لها أن تنكسر بسهولة، فاستحقت عن جدارة أن تصبح رائدة من رواد هذه الدعوة. لا
شك أن تزوجيها الذي نزل في كتاب الله لهو تشريف لها على ما قامت به وتحملته رغبة
إلى الله وطاعة لرسوله.
هل بعد هذه الحادثة انقطعت علاقة زيد برسول الله؟ على العكس
تمامًا، زيد ابن حارثة كان يُلقب بحِب رسول الله، وكان رسول الله يكرمه ويقربه،
حتى أنه بعثه على رأس جيش لملاقاة الروم فيما يسمى بغزوة مؤتة. وكان في الجيش ابن
عمه جعفر بن أبي طالب، ولما وصل إلى رسول الله خبر مقتل ثلاثة من قواد الجيش وهم
زيد وجعفر وعبد الله ابن رواحة، صلى عليهم ودعا لهم، وبدأ بزيد وقال اللهم اغفر
لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، ثلاث مرات. لم ينقطع ود رسول الله لزيد
حتى بعد وفاته، فها هو يضع أسامة بن زيد على رأس جيش فيه كبار الصحابة قبيل وفاته
صلى الله عليه وسلم، تكريمًا لزيد وابن زيد. إنه الصادق الأمين، والرحمة المهداة،
والرفق اللين والحياء تمشى بين الناس.
يبقى لنا ملاحظة أخيرة وهي ذكر اسم زيد صراحة في كتاب الله.
من خلال منهجنا نعتقد أن جميع الأسماء في كتاب الله هي أسماء حقيقية تصف المسمى
بكل دقة؛ وبناء عليه فإن اسم زيد لابد أنه يصف هذه الشخصية ويحدد ملامحها. هل يمكن
أن تكون الزيادة هي أحد صفات هذه الشخصية؟ الزيادة تعني المبالغة في الانفعالات
ورد الفعل. هذا ليس جزمًا بشئ وإنما فقط ملاحظة من خلال اسم زيد الوارد في كتاب
الله. سؤال أخير هل هذه الشخصية كان اسمها زيد منذ البداية أم أن كان لها اسم آخر،
ثم انطبق عليها اسم زيد بعد نزول القرآن وتداول الناس الاسم القرآني وتركوا الاسم
القديم؟ هو مجرد تساؤل نضعه أمام المحققين والباحثين لفهم أكثر لهذه القصة
والحادثة في كتاب الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق